رؤية ورواية بقلم / سهام عزالدين جبريل
بقلم / سهام عزالدين جبريل
جريمة في قطار الشرق السريع ، رواية للمبدعة أجاثا كريستى، وهى من الرويات الرائعة التي استهوتنى في الصغر أتذكر اننى كنت في المرحلة الابتدائية عندما وجدتها في مكتبة والدى وبدأت في قراءتها كنت حينها في الصف الرابع الابتدائى ولكنى كنت متمكنة من القراءة ، كانت تتحدث عن حدوث جريمة في قطار الشرق السريع , الذى كان يأتي من إسطنبول مرورا بدول شرق اوربا ويخترق منطقة البلقان متجها الى المانيا ، ثم فرنسا الرواية نشرت لأول مرة في المملكة المتحدة عام 1934, وفي الولايات المتحدة عام 1935 وحملت عنوان مغاير ، ظهر فيها المحقق (هيركيول بوارو) بطل الرواية .
ورغم اننى توقفت عن قراءة هذه الروايات من فترة طويلة غير أنني مازلت أتذكر تلك الرواية فأنا لم اكن مغرمة بالروايات البوليسية ولكنى كنت مغرمة بأحداث وتفاصيل اكثر عمقا فالوصف السحرى لرحلة القطار التي نسجتها المبدعة أجاثا كريستي في الشخصيات والأماكن والمناطق التي مر بها القطار هي التي استهوتنى ، (وتتلخص الرواية في وصف تصرفات بعض الشخصيات فعند وصوله إلى فندق التوكاتيلان في اسطنبول, يستقبل (هيركيول بوارو) تلغرافا يخبره بإلغاء مخططاته والعودة فورا إلى لندن ، فيطلب من عامل الفندق أن يحجز له مقصورة في الدرجة الأولى في قطار الشرق السريع الذي يغادر تلك الليلة يلتقي (بوارو) بالسيد (راتشيت) رجل أمريكي ثري الذي يظن أن حياته في خطر ويطلب من (بوارو) مساعدته إلا أن بوارو يرفض قائلا: “وجهك لا يعجبني سيد راتشيت” ، يكون القطار مزدحما على غير العادة في مثل ذلك الوقت من السنة ، وركابه من مختلف الجنسيات.
وتأخذنا الكاتبة إلي ليلة اليوم الثاني من الرحلة والتي يتوقف القطار بسبب الثلوج الكثيفة قرب فينكوفتشي في يوغوسلافيا والتي ترصد فيها عدة أحداث تزعج نوم (بوارو) في تلك الليلة, بما فيها صراخ من مقطورة السيد (راتشيت) ، وفي صباح اليوم الموالي نجد السيد بوك أحد معارف (بوارو) ومدير الشركة التي تسير قطار الشرق السريع, يعلن أن السيد(راتشيت) قد تم قتله ويطلب من (بوارو) التحقيق في القضية وهذا لتجنب التعامل مع الشرطة اليوغوسلافية ، فيقبل (بوارو) ذلك ، وبعد معاينته لجثة ومقطورة السيد (راتشيت) حيث كان يبدو أن (بوارو) متأكدا من هوية ودوافع الجريمة ، وتسترجعنا بذاكرتها عى شكل “فيد باك” وتفسر بعض الألغاز مثل إسترجاع احداث أنه قبل سنوات ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية, تم اختطاف الطفلة ( دايزي آرمسترونغ) البالغة ثلاث سنوات من قبل رجل يدعى (كاسيتي) الذي برغم حصوله على الفدية من عائلة (آرمسترونغ) يقوم بقتل الطفلة ، فإذا بالصدمة تحطم العائلة وتتسبب في موت وإنتحار عدد من أفرادها، ويتم القبض على (كاسيتي) لكنه ينجح في الهروب من أمريكا ويستنتج (بوارو) أن (راتشيت) الذى تم قتله هو نفسه (كاسيتي) خاطف وقاتل الطفلة .
بعد مواصلته للتحقيق ، يكتشف (بوارو) أن كل ركاب القطار لديهم علاقة بعائلة (آرمسترونغ) وبالتالي فكلهم يمتلكون الدافع لقتل (راتشيت) ، ويقترح (بوارو) حلين لإنهاء القضية ويترك للسيد (بوك) اختيار الحل المناسب وتقديمه للسلطات المعنية ، الأول هو أن شخص غريب اقتحم القطار وقام بقتل السيد (راتشيت) والثاني أن كل ركاب القطار البالغ عددهم (13) لكن تخلف أحد الركاب عن القطار جعلهم (12) شاركوا في ارتكاب الجريمة وهذا ليحققوا العدالة التي لم تحقق في الولايات المتحدة الأمريكية ، وتظهر (السيدة هوبارد)إحدى الركاب ويتضح أنها في الحقيقة (ليندا أردين) جدة الطفلة (ديزي آرمسترونغ ) التي تعترف بأن الحل الثاني هو الحل الصحيح ) ، هذه ملخص الرواية التي نسجتها أجاثا واستلهمت فكرتها أثناء رحلتها في القطار نفسه عام 1928م ، بعد انفصالها عن زوجها الأول حيث سافرت الى الشرق الأوسط على متن قطار الشرق السريع Orient-Express” ” الذي ظل ينطلق من فرنسا إلى تركيا طوال تسعين عاماً (وتحديداً بين1883 حتى 1977) وقد استقلته من مدينة كالية في فرنسا قاطعه القارة الأوربية نحو الشرق وصولاً إلى محطة اسطنبول ، ومن اسطنبول استقلت قطار طوروس إلى الحدود السورية ثم سافرت إلى العراق بالشاحنة حيث تعرفت هناك على زوجها الثاني عالم الآثار والمنقب المشهور مالوان ، ورحلة أجاثا نفسها توضح خط سير القطار وسبب شهرته بين الأوربيين ، فهو أول قطار أوروبي يجتاز القارة من غربها وحتى شرقها بطول 2740 كم مع توقفات في مدن القارة الاوربية الرئيسية (أبرزها ميونيخ في ألمانيا، وفيينا في النمسا، وبودابست في هنغاريا، وبوخارست في رومانيا) قبل أن يتوقف نهائيا في اسطنبول.. وحين يصل الراكب إلى اسطنبول يكون قد وصل فعلاً إلى الشرق حيث يمكنه الإنتقال منها بوسائل مختلفة إلى العالمين العربي والإسلامي ، حيث كانت هناك وصلة لقطار الشرق العربى بفرعين كان يتواجدان في حلب والذى يصل بين اسطنبول وبلاد الحجاز وأخرى تصل حتى مصر بوابة افريقيا ، هذا طبعا قبل الحروب العالمية التي اجتاحت اوربا ، وقبل انهيار الدولة العثمانية ، والذى انفصمت طرقة بعد احتلال فلسطين عام 1948م ، حيث ظل فرع القطار الذى يصل مصر بالشام متوقف عند مدينة غزة ، والذى اغلق تماما وتم تدميره بعد حرب 1967م ،
وكانت فكرة القطار قد ظهرت بفضل رجل أعمال بلجيكي يدعى جورج ناجلميكرز تمكن من إقناع عدد من شركات الخطوط الحديدية بتسيير قطار ركاب بعربات نوم فخمة تتكفل شركته بإدارته. وفي رحلته الأولى سافر القطار من باريس إلى فارنا في بلغاريا بعد عبور نهر الدانوب على قوارب. ، ثم انتقل الركاب من فارنا إلى اسطنبول على متن سفينة بخارية أبحرت بهم عبر البحر الأسود.
وفي عام 1889 أصبحت الرحلة بأكملها تتم بواسطة القطار بعد إنشاء جسر الدانوب وإكمال سكة بلغاريا حتى تدخل الحدود التركية ، ورغم أن الرحلة بمجملها تستغرق أكثر من 60 ساعة لم يكن الوقت مشكلة في هذا القطار بالذات ، فهو لم يكن الأطول في أوربا فقط بل والأكثر فخامة ورفاهية ، فقد جهز بعربات نوم مريحة ومطاعم فخمة وصالونات جلوس وصالات تدخين وغرف شراب جميعها مفروشة بالسجاد الشرقي بالإضافة إلى بوفية يومي يلبي احتياجات القادرين على دفع تذكرة الرحلة.. ومنذ عام1932 أصبح ينضم إلى القطار بحسب أيام الأسبوع عربات قادمة من برلين وأوستند وأمستردام وفيينا وبراغ وينفصل عنه قطاران صغيران يتوجهان إلى روما وأثينا.
وظل قطار الشرق السريع يجتذب لسنوات الأثرياء والعائلات المالكة والطبقة الارستقراطية من المجتمع الأوربي وبمرور الأيام بنى لنفسه سمعة جمعت بين الرومانسية والمغامرة وحب الاستكشاف الأمر الذي أثرى قريحة الفنانين والروائيين والكتاب أمثال “غراهام غرين” و”آجاثا كريستي” اللذين أسهما برواياتهما في ذيوع شهرة القطار على مستوى العالم .
كم كنت رائعا أيها القطار كنت تجمع الشرق مع الغرب وكم كنت احلم بأن أعيش في ذك الزمن الذى استقل فيه القطار من أى محطة في الشرق العربى للذهاب الى الغرب الاوربى ، دون ان أرى حروب وصراعات تفتك بنى البشر في محطاتك التي أصبحت أطلال وذكريات نقرأها من خلال روايات المبدعين ،،،
تحياتى / سهام عزالدين جبريل