طابا … بين المعركة الدبلوماسية … وتوثيق الحقوق التاريخية
بقلم / سهام عزالدين جبريل
يوافق اليوم 19مارس ذكرى عودة طابا عام 1989م ، لأشك أنها ذكرى عظيمة وحبيبة إلى قلب كل مصري ، تحمل العز والفخار بذكرى إرتفاع العلم المصرى مرفرفا على جزء عزيز وغالى من أرض الوطن وترابه الغالى المحرر،،،
فمعركة طابا كانت شكل مختلف ، معركة دبلوماسية عالية المستوى ، إستمرت قرابة السبع سنوات حيث اخذت هذه الجولة الدبلوماسية عدة مراحل من مفاوضات ولجان ومشارطة تحكيم ، وقد جرت المفاوضات الخاصة بإعداد وصيغة مشارطة التحكيم بالتناوب فى كل من الجلانتبين المصرى والإسرائيلى ، وشاركت فيها الولايات المتحدة الامريكية .
لقد إتسمت هذه المفاوضات بالمشقة والعسر وبصفة خاصة فيما يتعلق بالسؤال الذى يوجه الى هيئة التحكيم حيث تحرص الدول التى تعرض منازعتها على التحكيم على بذل
قصارى جهدها لصياغة ، صياغة تتفق مع وجهة نظرها ، وعلى النحو الذى يسمح لها بتقديم مالديها من أدلة تؤكد ماتطالب به ، ووفقا لما تقتضية قواعد القانون الدولى ،،،
•والواقع ان الخلاف فى قضية طابا قد يبدو لآول وهلة ليس ذا أهمية كبيرة ،
لكنه فى الحقيقة له جذور عميقة تمس أصل النزاع ، ويعبر عن رؤية كل من الطرفين لجوهر المشكلة ، فبينما كانت إسرائيل تستهدف أن يؤدى التحكيم إلى مكاسب إقليمية لها وإعادة النظر فى الاوضاع السابقة للإحتلال الإسرائيلى لسيناء فى يونيو 1967م ،
وفتح الباب امام الإدعاءت الاسرائيلية بأن خط الحدود بين مصر وفلسطين تحت الإنتداب البريطانى كان قد تم تعديله بعد إبرام إتفاق 1906م ، بين مصر والدولة العثمانية لصالح مصر .
ومن ثم فقد حاولت إسرائيل خلال المفاوضات الإشارة الى مصطلح الحدود وليس إلى علامات الحدود ، الأمر الذى كان فى نظرها يتيح باثارة الشكوك حول حدود مصر الدولية ، بإظهار النزاع كما لو كان متعلقا بتعليم وترسيم جديد للحدود بين الدولتين .
اما وجهة النظر المصرية وحجتها كانت ثابتة ويقينية على نحو حاسم ليس به مثار للشك على أن مايطرح للتحكيم هو تحديد مكان علامات الحدود وليس ترسيم حدود ، والتى وقع بشأنها الخلاف بين الطرفين قبل إنسحاب إسرائيل النهائى فى أبريل 1982م وكانت الحجة المصرية فى ذلك أن الأوضاع السابقة على إحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء عام 1967م هى أوضاع قامت على اسانيد قانونية ثابتة وحقائق تاريخية تؤكد حقوق مصر التاريخية وحدودها مع حدود فلسطين التاريخية والتي لايمكن المجادلة بشأنها ، والمعترف بها دوليا وإقليميا لعقود طويلة وليس بها أدنى منازعة .
* وفى الحقيقة وكما حدثنى اُستاذى الدكتور/ مفيد شهاب اُستاذ القانون الدولى وعضو اللجنة حينها، عن ذكرياته حول هذه المسألة ان الجانب المصرى قد اظهر كفائة وحجة قوية ومرجعية تاريخية اذهلت الجانب الإسرائيلى حيث جاء طرح النزاع على المحكمة من خلال التأكيد على مبدأ قدسية الحدود وعدم المساس بها فى الديباجه ، ونتيجة لقوة حجة المفاوض المصرى إضطر الجانب الاسرائيلى إلى الإلتزام بمضمون وروح السؤال وحدد مواضع محددة لعلامة طابا والعلامات الاخرى المتنازع عليها ، كما قامت مصر من جانبها بتحديد مواضعها ، وكانت النتيجة أن ملحق مشارطة التحكيم جاء واضحا فى مطالبة المحكمة بالبحث عن موضع علامات كانت قائمة بالفعل .
حيث إستمرت جولات اللقاءات بين الجانبين حتى تم التوقيع على مشارطة التحكيم بين مصر وإسرائيل فى 11سبتمبر 1986م ، وحيث انه لابد ان يتعين عند تحديد موضوع النزاع فى مشارطات التحكيم حيث لابد أن تتضمن المشارطة تحديد موضوع النزاع ، وبناء على ذلك فقد شمل موضوع النزاع بين مصر وإسرائيل تحديد أربعة عشر موضع متنازع عليه بينهما ضمتها مشارطة التحكيم حددت فيهما كلا من مصر وإسرائيل موضع العلامات الأربعة عشر المختلف فيهم فى ملحق المشارطة وقد وصف كل طرف تلك العلامات وصفا دقيقا فى بطاقات الوصف الملحقة بالمشارطة ودافع كلا منهما على وجهة نظره فى تبرير المواضع التى حددها فى بطاقات الوصف أثناء إجراءات التحكيم والتى بناء عليها ، استجابت مشارطة تحكيم طابا للقواعد المتبعة فى تشكيل محكمة التحكيم الواردة فى القانون الدولى العام حيث نصت المادة الاولى من المشارطة على تشكيل هيئة التحكيم وحددت اعضائها الخمس ،
•وسار حكم هيئة التحكيم على النحو التالى حيث حددت مشارطة التحكيم المصرية الاسرائيلية القواعد التى يجب مراعتها عند اصدار الحكم فى موضعين منها:
1- فقد نصت المادة 4/2منها على ان:-
( تتخذ القرارات بما فى ذلك الحكم عندغياب الاجماع بأغلبيةأصوات الاعضاء )
2-كما نصت المادة 12/1من مشارطة التحكيم على أن :-
-( تسعى المحكمة لإصدار حكمها خلال تسعين يوما من انتهاء المرافعات الشفوية والزيارات ويشمل الحكم الاسباب التى استندا اليها .
-يعتبر الحكم قد صدر عندما ينطق به فى جلسة علنية بحضور وكلاء من الطرفين او تمام إستدعائهم للحضور )
• وتطبيقا للقاعدة السابقة وبعد إنتهاء المرافعات الشفوية وزيارات المحكمة لموضع النزاع وبعد فشل اللجنة الثلاثية أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها التاريخى فى قضية طابا فى جلسة علنية بتاريخ 29سبتمبر 1988م بالفصل فى النزاع القائم بين مصر وإسرائيل حول نقطة طابا الحدودية حين جاء الحكم لصالح الجانب المصرى ، وذلك نتيجة جهد دؤوب من الجانب المصرى دام سبع سنوات من عام 1982م وحتى عودتها فى مارس عام 1989م ، وجاء الحكم متضمنا الأسباب التى استندت اليها المحكمة فى حكمها حيث جرى بث وقائع هذه الجلسة التاريخية عبر الأقمار الصناعية ، وأعلن رئيس الهيئة الدولية ، حكمها إجابة على السؤال الذى تضمنته المادة الثانية من المشارطة ، فجاء الحكم قاطعا فى إثبات الحق المصرى كاشفا ومؤكدا صحة المواقع المصرية فى طابا ورأ س النقب وغالبية العلامات الشمالية ،،،
•ولم يترك المفاوض المصرى الامر لسلطة المحكمة كاملة بل كان قد وضع فى مشارطة تحكيمه نصا يلزم المحكمة بأن تقضى فى منازعات تفسير أوتنفيذ الحكم خلال 45يوما من تاريخ تقديم الطلب اليها وتصبح توضيحات او تفسيرات المحكمة جزأ لايتجزأ من الحكم.
•وبناءعلى ذلك تمت سرعة اجراءات تنفيذ حكم المحكمة من خلال منظومةعمل وطنى رائع شاركت فيه كل الجهات الرسمية المعنية وعدد من الخبراء القانونيين منهم:- الدكتور/ مفيد شهاب ، والدكتور/ صلاح عامر ، والسفير/ ابراهيم يسرى لآن هذا الاعداد يبدأ احيانا بتوجيهات من مستوى القمة للآجهزة التنفيذية وفى أحيان اخرى ترفع اللجنة الفنية توصيات الاجهزة المختلفة الى القيادة السياسية لاتخاذ قرارا بشأنها ، وكان يشرف على مراحل تنفيذ الحكم الاستاذ الدكتور/ عاطف صدقى رئيس مجلس الوزراء حينها على رأس لجنة وزارية مصغرة تضم نخبة من السادة الوزراء الدكتور/ فتحى سرور وزير التعليم بإعتباره قانويا ، والسيد المستشار/فاروق سيف النصر وزير العدل الاسبق ، وكان رئيس الوزراء حينها يدعو وزراء أخرين عند بحث أحدى الحالات الداخلة فى إختصاصتهم كانت اجتماعات اللجنة مستمرة وبمتابعة مباشرة من رئيس الجمهورية الذى كان يتابع اعمال اللجنة اولا بأول الى ان تم رفع العلم خفاقا حرا فى سماء التراب المصرى على منطقة وفندق طابا .
وهنا احب أن أؤكد على أن شهادة أهلنا في سيناء كان جزء هام وأصيل من التوثيق لحقوقنا كمصريين في مثلث طابا فسكان المنطقة وأهلها كانوا أحد المراجع والوثائق الهامة في هذه القضية ، وتأصيل الحقوق التاريخية من شهود العيان المعايشين على أرض الواقع ، حيث تم الإستعانة بالخرائط التركية لتأكيد حقوق مصر التاريخية والجغرافية وهذه الخرائط كان جزأ لدى أبناء سيناء أحفاد إمراء طابية العريش التي كانت مسئولة عن تأمين سيناء وحدودها منذ عدة مئات البسنين ، وهم الذين اشاروا الى القيادة السياسية حينها بذلك ، حيث اكدت وثائق ابناء سيناء الخاصة وشهاداتهم والتى كانت من أهم المراجع التى أكدت ووثقت أحقية مصر فى شريط طابا الحدودى وتحديد العلامات الدولية بها ، وبهذه المناسبة أتذكر واذكر انه قد تم الاتصال بوالدى الأستاذ /محمد عزالدين جبريل، حينها وقد كان وقتها رئيس مجلس محلى مركز العريش ،لأخذ صور لبعض الاوراق والوثائق التى كانت تمتلكها عائلتنا ، والتى اكدت أحقية مصر لمنطقة طابا ، كما أنه تم الإستعانة بشهادة والدى وبعض أبناء سيناء لتقديم شهاداتهم امام اللجنة المشكلة حينها ،
•وفى الحقيقة وبهذه المناسبة العظيمة اننى احب ان اذكر حوار دار بينى وبين كلا من استاذى الدكتور / مفيد شهاب الذى أكد على دور أهل سيناء في هذه الجولة وشهادتهم بأحقية مصر التاريخية في مثلث طابا ، وحول ذكريات تلك المفوضات حيث كان من أعضاء اللجنة المشكلة بها أن كان اثناء التفاوض بين الطرفين كان يحتكم للدكتور/مفيد شهاب فى قانونية بعض الموضوعات بصفته استاذ فى القانون الدولى وكان عندما يعرض علية موضوع كان يرد بأمانة عن شقها القانونى ، فكانت رؤيته القانونية تؤكد صحة الحجج المصرية فى حين تؤكد عدم صحة الحجة الإسرائيلية ، وقد كان السفير الإسرائيلى فى مصر حينها من ضمن اللجنة المشكلة من الجانب الإسرائيلى فاشتد غيظ السفير الإسرائيلى حيث فجأة انطلق يوجه الحديث بغضب للدكتور شهاب ويقول له :- انت مش مفيد شهاب مضر شهاب !!!
• وتحضرنى حادثة اخرى رواها لى استاذنا المؤرخ العظيم دكتور/ يونان رزق حيث
حكى لى فى نفس هذا الموضوع حيث انه كان من ضمن اللجنة والمسئولة عن المراجعات التاريخية ومراجعة الرسائل المتبادلة والتدقيق فى مرجعيتها التاريخية حيث قال أنه كانت هناك مرحلة لتبادل الرسائل بخصوص موضوع النزاع فى طابا بيننا وبين الجانب الإسرائيلى وكلا يقدم حججه ومرجعيتاه التاريخية ويدجلل بها بالبرالهين والوثائق ، فكان يلاحظ أن هناك كثير من الاخطاء التاريخية التى كان يرسلها الجانب الاسرائيلى وكتير من المغالطات التاريخية والكتابات الغير واضحة والسطور المقصوصة والمقطوعة ، فكان بدوره لابد وان يضع يده على هذه المغالطات ويستند الى الوثائق المصرية التى تؤكد صحة الرؤية المصرية وتثبت خطأ وجهة النظر الاسرائيلية ،
• ويعلق الدكتور يونان بأنه وبعد هذا المجهود الذى بذل ، كانت هناك بعض
الحوارات بيننا وبين الجانب الاسرائيلى من خلال أعضاء لجنتهم المشكلة من اساتذه فى فى التاريخ والجغرافيا والقانون الدولى ودبلوماسيين وعسكريين حيث قالوا لنا عندما صدر الحكم لصالح الجانب المصرى أننا كنا نعرف يامصريين ان هذه أرضكم وأنها أرض مصرية ، وتم سؤالهم ولماذا كانت كل هذه المغالطات والمرواغات ،
• فردوا ردا احب أن أذكرة أمام الأجيال وأمام التاريخ مفاده أنهم قالوا :-
أننا كنا نراهن ونفاوض على عدم معرفتكم بتاريخكم ونناور على جهلكم به ولكنكم أثبتم العكس وهذا مافوجئنا به ،،،
وفى الحقيقة أن ذكرى عودة طابا ذكرى عظيمة وحبيبة فى قلب كل مصري تحمل الفخر والإعتزاز بذكرى عظيمة لإرتفاع العلم المصرى مرفرفا ، على جزء عزيز وغالى من ترابه المحرر، ومن خلال هذا العرض قصدت عرض صورة مضيئة لتؤكد أن معركة طابا كانت شكل مختلف من المعارك ، نموذج لمعركة دبلوماسية عالية المستوى إستمرت قرابة السبع سنوات ، اُديرت بمهارة المفاوض المصرى ، وإعتماده على الوثائق والحقوق التاريخية ،
فهى حقا درس يحتذى به ويجب أن نتعلمه ويتعلمه العالم فى إسترجاع الحقوق بطرق سلمية بعيدا عن الحروب وهدر دماء الشعوب ، وأن نعلم أن هناك أدوات كثيرة يمكن أن تمكنا من تبنى قضايا الوطن والحفاظ على حقوقة التاريخية والجغرافية ، بأسلوب دبلوماسى أكاديمى علمى وتوثيق الحقائق للأجيال القادمة فالعلم والدبلوماسية وتوثيق شهود التاريخ ، طريق أمن لحل الصراعات دون إهدار الدماء وإضاعة الحقوق التاريخية المكتسبة، لعلنا نسترشد بها في أزماتنا الحالية والمستقبلية ،
كل التحية والتقدير للدبلوماسية المصرية التى خاضت معركة الشرف والكرامة من خلال دبلوماسية التفاوض وأدواتها الناعمة ، ومهارات المفاوض المصرى الكفء ،
وتحية لشعب مصر العظيم ، ولأبناء سيناء الشرفاء الذين هم جزء من النسيج الوطنى لشعب مصر العظيم ، والحافظين لحقوق الوطن والاُمناء على حدود الوطن وحماة أمنه القومى ،،،
كل عام ووطنى الحبيب مصر في عزة وإنتصار وتقدم .
———————————
خالص تحياتى/ سهام عزالدين جبريل