خواطر إقتصياسية التجربة الماليزية فى التنمية الإقتصادية ” من المطاط إلى التصنيع “
كتب دكتور احمد الجيزاوي
تعد التجربة الماليزية في التنمية من التجارب المهمة، فماليزيا نجحت في المزج بين اقتصاديات العولمة والاحتفاظ بنهج الاقتصاد الوطني لتتحول خلال فترة قصيرة من بلد يعتمد على تصدير المواد الاولية الى واحدة من أكبر الدول المصدرة للسلع والتقنية الصناعية في منطقة جنوب شرقي آسيا.
فماليزيا بلد صغير يقع فى جنوب شرق آسيا، مكون من 13 ولاية وثلاثة أقاليم اتحادية، بمساحة كلية تبلغ 329٫845 كيلومتر مربع، وهى مساحة تقل كثيرًا عن مساحة محافظة الوادى الجديد فى مصر (أكثر من 440 ألف كيلومتر مربع). عدد سكانها نحو ثلث سكان مصر، حيث يبلغ سكانها 30 مليون نسمة. كانت قبل نحو أربعة عقود مجتمعــًا زراعيـًا لا يعرف سوى زراعة الأرز والمطاط وبعض النباتات والفاكهة.
لكن التطور حدث، لتتحول من معدل فقر يصل إلى 70 فى المئة، إلى بلد معدل الفقر بها نحو 5 فى المئة فقط، وليزيد دخل الفرد السنوى من 350 دولارًا ليصبح فى الوقت الحالى 18000 دولار.
فكيف تمت هذه المعجزة الماليزية ؟
لعل من الأمور اللافتة للنظر فى تجربة ماليزيا قدرة المجتمع هناك على تجنب الصراعات والخلافات بين المجموعات العِرْقية الثلاث الرئيسية المكونة للسكان، وهي: الملايو الذين يمثلون 50% من السكان، والصينيون الذين تبلغ نسبتهم 24%، والهنود البالغ نسبتهم 7%.
فقد بنيت التجربة الماليزية فى التطور والتنمية والتقدم على أربع ركائز هى :
الركيزة الأولى : عمل النظام هناك على تعزيز الوحدة بين فئات الشعب مع اختلاف دياناتهم؛ حيث توجد الديانة الأساسية وهى الإسلام بالإضافة للديانات الأخرى مثل البوذية والهندوسية.
أما الركيزة الثانية : فى خطة التنمية تمثلت فى البحث عن دولة مناسبة تقوم بعملية الدعم لماليزيا فى تجربتها نحو التقدم والتنمية؛ وكانت هذه الدولة هى اليابان التى أصبحت من أكبر حلفاء ماليزيا فى مشروعها نحو التنمية والتقدم.
وتتمثل الركيزة الثالثة : فى العمل على جذب الاستثمار نحو ماليزيا وتوجيه الأنظار إليها
أما الركيزة الرابعة والأهم : فقد اهتم رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد بإدخال التكنولوجيا الحديثة والتدريب عليها حتى يتم الانتقال بالبلاد سريعـًا إلى مرحلة أخرى أكثر تقدمـًا، مع تحقيق إمكانيات التواصل مع العالم الخارجى. ، فتبنت الحكومة المنهج التنموى والذى دفع بالبلد نحو النهضة التنموية؛ وذلك من خلال توفير مستويات عالية من التعليم والتكنولوجيا، وتعليم اللغة الأنجليزية
الركيزة الخامسة : محاربة الفساد والقضاء عليه
من خلال تلك الركائز الخمس أستطاع مهاتير محمد رفع مستوى التنمية الإقتصادية للبلاد وتحويلها من دولة زراعية تعتمد على تصدير السلع الزراعية والمواد الأولية البسيطة مثل المطاط والقصدير إلى دولة صناعية متقدمة، وأصبحت معظم السيارات التى توجد بها صناعة ماليزية خالصة، وزاد نصيب دخل الفرد زيادة ملحوظة فأصبحت واحدة من أنجح الدول الصناعية فى جنوب آسيا.. وذلك من خلال وجود الاستثمارات اليابانية، فقد ازدهرت الصناعات الثقيلة فى غضون سنوات، وأصبحت صادرات ماليزيا محرك النمو الرئيسى. فحققت ماليزيا باستمرار معدل نمو محلى إجمالى أكثر من 7٪ مع انخفاض معدلات التضخم فى الثمانينيات والتسعينيات. وتعد ماليزيا اليوم واحدة من أكبر مصنعى الأقراص الصلبة الحاسوبية.
ولم تستغنى ماليزيا عن النشاط الزراعى لنمو الصادرات فقد وضعت خطة لزراعة 100 مليون نخلة (على مراحل مستغلى المناخ المناسب بماليزيا لزراعة مثل هذا النوع من النخيل) ، لإنتاج زيت الطعام ونجحت فى ذلك حتى وصلت الصادرات الماليزية من زيت النخيل للطعام إلى ما يزيد عن 70 % من صادرات العالم من زيت النخيل
فهل هى معجزة؟
نعم إنها معجزة تنموية إقتصادية بكل المقاييس، ولكنها معجزة لم تحدث بالصدفة ولكن تحققت نتيجة للعمل الشاق والإيمان بالحلول العملية والواقعية والاعتراف بالسوق كقوة من قوى النمو والتعليم والانفتاح مع الأفكار الحديثة
ولكى نفهم كيف تمت هذه المعجزة لابد وأن نقرأ ما سطره المايسترو الذى وضع أساسها وتابع خطوات تحقيقها وهو مهاتير محمد ، فهذه مقتطفات من كتاباته التى كتبها فى موسوعته عن التجربة الماليزية :
ويحكى مهاتير محمد عن بداية النجاح فيقول «منذ عام 1991 تسابق مجتمع ماليزيا بالكامل حول ما نسميه برؤية 2020. كان الهدف الذى استحوذ على خيال الناس حتى من هم فى جانب المعارضة هو هدف النمو بمعدل 7 فى المئة على امتداد السنوات من عام 1991 إلى عام 2020 ونكون بذلك قد ضاعفنا من دخلنا القومى فى كل عشر سنوات ونخرج للوجود كدولة متقدمة بشكل تام قبل نهاية عام 2020».
ويستكمل «كى نحقق هذا الهدف البطولى للغاية حددنا سلسلة من إصلاحات واستراتيجيات اقتصادية اعتبرناها الصيغة الربحية، تتكون من أشياء كثيرة أولها أن الحكومة لا تدخل فى مشروعات تجارية، وبدأنا فى بداية الثمانينيات بالانتقال الاستراتيجى ليصبح القطاع الخاص آلة أساسية للنمو».
وأكد «استغرق منا ذلك عدة سنوات صادفنا فيها أصعب الأوقات، لكن القطاع الخاص الذى ربيناه وكبرناه أصبح اليوم نابضـًا بالحياة. لقد أصبح بحق الآلة الرئيسية لنمونا».
يوضح مهاتير محمد أن تجربة النهضة فى ماليزيا ليست بالتجربة السهلة، لكن الجميع وضعوا مصلحة ماليزيا أمام أعينهم. وعن أهم المشكلات التى واجهت ماليزيا يقول: «هى مشكلة البطالة، ولكن قمنا بالتغلب عليها ووفرنا العديد من فرص العمل للشباب، من خلال إقامة المشروعات الكبرى، وجلب الاستثمارات الأجنبية، وركزنا على الزراعة والصناعة، مقدمين إعفاءات وتسهيلات ضريبية على الاستثمارات الأجنبية لمدة عشر سنوات».
وتابع: «كان على الصناعة الماليزية أن تتخذ خطوة جديدة فى طريقها النهضوى، فقمنا بصناعة الإلكترونيات التى كانت تتطلب تنمية العنصر البشرى، فعملنا على المناهج التعليمية الماليزية وتعديلها، حتى يتم بناء طلاب قادرين على مواكبة التقدم».
كان اهتمام مهاتير محمد بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية؛ فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادى للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور رياض الأطفال وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمى مقرر من الوزارة.
كما تم إضافة مواد تُنمى المعانى الوطنية وتغرز روح الانتماء للتعليم الابتدائى – أى فى السنة السادسة من عمر الطفل.. ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة؛ فبجانب العلوم والآداب تُدرَّس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية التى تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم.
وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهنى التى تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل فى مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، وكان من أشهر هذه المعاهد معهد التدريب الصناعى الماليزى، والذى ترعاه وزارة الموارد البشرية، وقد أصبح له تسعة فروع فى مختلف الولايات الماليزية.
وتوافقًا مع ثورة عصر التقنية قامت الحكومة الماليزية فى عام 1996 بوضع خطة تقنية شاملة من أهم أهدافها إدخال الحاسب الآلى والارتباط بشبكة الإنترنت فى كل مدرسة بل فى كل فصل دراسى؛ وبالفعل بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة الإنترنت فى ديسمبر 1999 أكثر من 90% وبلغت هذه النسبة فى الفصول الدراسية 45%.
كما أنشأت الحكومة الماليزية العديد مما يعرف بالمدارس الذكية التى تتوافر فيها مواد دراسية تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة؛ وذلك من خلال مواد متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات الاتصال ونظم استخدام الطاقة التى لا تحدث تلوثـًا بالبيئة.
«مجموعة من الإنجازات» هى ملخص تجربة مهاتير فى ماليزيا،
لكن من هو صاحب الإنجاز الأكبر فى هذه التجربة ؟
يقول مهاتير فى المجلد الأول من موسوعته، إنه عندما منح جائزة الإنجاز على مدى الحياة من بيت التمويل الأمريكى (لاريبا) اعترافـًا بدوره فى معالجة الأزمة الاقتصادية، أعلن وقتها أن الشعب الماليزى هم الذين يستحقون هذه الجائزة.
مهاتير محمد الذى يعتبر نفسه مسلمـًا سلفيـًا، يؤمن بمبدأ «إذا أردت أن أصلى فسأذهب إلى مكة وإذا أردت المعرفة فسأذهب اليابان».
هكذا تُبنى الأمم.