أخبار دولية

نزاع تركيا وإيران لوراثة العرب..خرائط جديدة للمشرق العربي بعد مائة عام من تفتيت “سايكس – بيكو” (2 من 3)

 

تحدثنا في الجزء الأول عن الخلفية التاريخية لاتفاقية “سايكس- بيكو” ومحاولة القوى الدولية والإقليمية في رسم خريطة جديدة لمنطقة المشرق العربي تحديدًا، والشرق الأوسط عمومًا، ونركز في هذا التقريرعلى دور تركيا وإيران في استغلال “الربيع العربي”؛ لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في هذه الخريطة المحتملة، هذا برغم التنافس الشديد بين أنقرة وطهران على رسم خطوط وتعرجات هذه الخريطة لتكون المستفيد الأكبر منها.

وكان لتركيا السبق في محاولة الاستفادة من هذه الحسابات، هذا إذا سلمنا بأن إيران قد غرزت أقدامها في المنطقة، وحفظت مكانًا لها في سوريا والعراق واليمن ولبنان.. وبينما تصر تركيا على تعزيز تحركاتها على جبهة حلب وشمال سوريا٬ أعلن رئيسها رجب طيب إردوغان أن لبلاده دورًا مهمًا في معركة تحرير الموصل٬ ودخل في تلاسن مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي أعلن رفضه لأي مشاركة تركية؛ حتي إن الإدارة الأمريكية سعت بقوة لتلطيف الأجواء بين أنقرة وبغداد، وأرسلت وزير دفاعها كارتر آشتون في زيارة مكوكية بين العاصمتين؛ بهدف التوصل إلى صيغة لاحتواء مخاوف الأتراك من أن يوسع الأكراد نفوذهم في المنطقة٬ أو أن تدخل ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية الموصل٬ وتقوم بانتهاكات ضد السكان السنة.

الأمر بدأ بتصريحات لوزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو: “تركيا قد تشن عملية برية لضمان مصالحها”، في حين تولي الرئيس التركي إصدار التصريحات المتشددة، والتي تشير إلى حق بلاده الأصيل في المشاركة في تحرير الموصل، ولم يتوقف عند هذا الحد، فخرج عن السياق الدبلوماسي: “لتركيا دور تاريخي يخولها التدخل٬ وإن الموصل وكركوك (كانتا لنا)”.

وقبل هذا الجهر برغبة أنقرة في المدن العراقية، كان أردوغان قد انتقد بشدة “معاهدة لوزان” التي وقعت عام 1923 التي رسمت حدود تركيا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأنها جعلت بلاده صغيرة جد من وجهة نظره٬ وإن التوقيع عليها لا يعني أن تركيا راضية عنها.

دروس أردوغان في التاريخ
وبغض النظر عما برر به أردوغان أقواله تلك بإنه يقدم للآخرين “درسًا في التاريخ”٬ إلا أنه كشف بصورة واضحة نيته في إعادة رسم حدود المنطقة، بما يؤدي إلى تقسيم سوريا والعراق، وعلى أن تراعي المصالح التركية في التقسيمات المرتقبة، مبررًا هذا – بخلاف ما سماه بالحق التاريخي في هذه الأراضي – بحق بلاده في حماية الأقليات التركية في الخارج.

المواقف التركية تؤكد أن أنقرة تريد تحقيق أهدافها من مرحلة السيولة الحالية في المنطقة عبر تحركاتها في معارك سوريا والعراق، ومن بينها:

• إحباط حلم قيام دولة كردية٬ على اعتبار أن تركيا تضم أكبر تكتل كردي في المنطقة وتسعى بكل قوتها لمنع تحقيق هذا الحلم للأكراد.

• شعور أنقرة بهاجس قوي بأن إيران عززت نفوذها في العراق وسوريا٬ وتشارك بشكل مباشر في الحرب الدائرة فيهما٬ وهو أمر مقلق لها بسبب التنافس الكامن بين البلدين.
• رغبة تركيا في أن تلعب دورًا بالمنطقة باعتبار ما تراه بأنها أكبر بلد سني، وذلك في ظل التنافس الإقليمي واشتعال المذهبية والطائفية في المنطقة.

لم يخل الأمر هنا من بعض التوترات التي تواجه تركيا بفعل هذه التطورات، فكل حسابات أنقرة وضعتها في مأزق مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، فواشنطن تدعم الأكراد بقوة مقابل مواقف أنقرة؛ لمنع تعزيز قوتهم ونفوذهم في المناطق المتاخمة للحدود التركية، ولم يكن الموقف أقل سهولة مع موسكو؛ حيث المشكلات الكبيرة بين تركيا وروسيا على خلفية الاشتباكات الجوية التي أسقطت قاذفة روسية فوق الأراضي التركية؛ مما ألهب الخلافات بين العاصمتين، هذا بغض النظر عما سعى إليه الرئيس التركي لاحقًا لمصالحة موسكو، وتقديم كافة الترضيات لها.

نعود إلى حديث أردوغان عن معاهدة لوزان، فعندما صرح به كان بهدف تبرير موقف بلاده للمجتمع الدولي لمشاركة تركيا في تحرير الموصل، ليس هذا فقط، ولكن المشاركة وبقوة في تشكيل ورسم مستقبل العراق ووحدة أراضيه، مشكلة ما قاله أردوغان هي ما إن بلغت تصريحاته العاصمة الإيرانية طهران، حتى خرج مسئولوها أيضًا بتصريحات يطالبون فيها بتعديل معاهدة “قصر شيرين” التي وقعت عام 1639، ومنحت الإمبراطورية الصفوية حق الإشراف على المزارات الشيعية في بلاد ما بين النهرين.

الزعامة الإقليمية بين تركيا وإيران
لقد وضع الأتراك والإيرانيون معركة تحرير الموصل في لب أطماع توسعية لكلا العاصمتين، فالموصل قضية عراقية بحتة، وليست قضية انتصار الشيعة على السنة أو العرب الذين يؤكدون سيطرتهم على الأكراد، وهي ليست أيضًا ذريعة للقوى الخارجية – تركيا وإيران – للمطالبة بحق الزعامة الإقليمية، وإنما تستهدف العملية في المقام الأول بسط العراق نفوذه على كامل أراضيه، والمثير للدهشة أن يدعي الأتراك في مثل هذا التوقيت والعراق يتأهب لتحرير الموصل، أحقيتهم في بعض المناطق العراقية والسورية على السواء، ولم تكتف أنقرة بأن المنطقة تشهد أسوأ أزمة سياسية واقتصادية منذ سقوط الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، إلا أنها تحاول تأجيج الانقسامات الطائفية والمذهبية القديمة بهدف تحقيق غايات سياسية لتضرب استقرارًا دام نحو قرن من الزمان من توقيع اتفاقية “سايكس – بيكو”.. فمجرد مطالبة أنقرة بإعادة رسم الحدود يزعزع الاستقرار الغائب أصلًا حاليًا عن المنطقة.

لم تكن الأطماع التركية وليدة اللحظة، فقد أظهرت أنقرة منذ تولي حزب “العدالة والتنمية” مقاليد السلطة في عام 2002، بزعامة رجب طيب أردوغان ميلًا للانشغال بالقضايا والمشكلات والأزمات العربية، بغية تحقيق مساعيها بالحصول على دور إقليمي مهم لها في الشرق الأوسط، لتعزيز مواقعها أمريكيًا وأوروبيًا، وبدا أن أنقرة لم تترك فرصة إلا واستغلتها لتحول بوصلتها نحو الشرق، مستفيدة بمجموعة من العوامل التى وفرتها منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، مثل: كثرة المشكلات العربية – العربية، والعربية الداخلية، والعربية – الإسرائيلية، بالإضافة إلى ما وفره المناخ السياسي التركي من مسوغات لتحقيق هذا المسعى، وهو ما أثار شهية تركيا لطرح نفسها على أنها حلالة عقد العرب ومشكلاتهم وأزماتهم الداخلية، وأمام فشل الجهود العربية في لجم وتقويض النفوذ الإيراني المتعاظم في العالم العربي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا ومذهبيا، رأت تركيا في نفسها القدرة على توفير معادل سياسي وعسكري يمكنه مزاحمة النفوذ الإيراني، لتوفير حالة من التوازن مع الهيمنة الإيرانية على بعض دول المشرق العربي تحديدًا أو على الأقل القرار السياسي فيها، مثل سوريا والعراق واليمن ولبنان.

وفي الوقت الراهن، تعمل تركيا على استغلال كل ما توافر على الساحة السياسية العربية من غياب البوصلة، وتفتت القوة والسلطة، وهو ما جعل الأتراك يفكرون في اقتطاع أجزاء من قلب الوطن العربي، هذا القلب غير النابض حاليًا، ويشعر بالفراغ السياسي لغياب لاعبيه الأساسيين، أو لتراجع دورهم عن ذي قبل لأسباب تتعلق بالثورات العربية.. هذا مقابل مناخ سياسي داخل أنقرة يدفع القيادة التركية – برغم مشكلاتها المحلية الكثيرة في الوقت الراهن ومحاولتها النهوض من محاولة انقلاب كادت تودي بحياة وتاريخ “العدالة والتنمية” – إلى التفكير بتعظيم دورها على حساب العرب، ليس بهدف إعادة أمجاد الخلافة العثمانية، ولكن تحت مسميات وحيثيات وجغرافيا وتاريخ جدد.

أدركت تركيا أن خرائط ترسيم الحدود السياسية بين دول العالم على مدى السنوات المائة لاتفاقية “سايكس – بيكو”، لم تعد تجدي نفعًا، أو تتحكم في مجريات التحالفات السياسية في الوقت الراهن، إذ إن الخرائط التي وضعتها بريطانيا وفرنسا عام 1916 قسمت الحدود العربية، ومنطقة الشرق الأوسط على غير رغبة شعوبها وحكامها؛ لضمان سيطرة تلك الدولتين على مستعمراتهما، لم تعد فعالة كما كانت فى الماضي، والآن، يريد اللاعب التركي صياغة خريطة العالم الشرق أوسطي، بمفهوم إستراتيجي خاص به، يعلي من قيمة العلاقات والتحالفات، ويستند حسبما أفصح أردوغان – وهو ما سنفسره لاحقًا – إلى التاريخ والعرق والدين، خاصة أن هذا المفهوم الإستراتيجي يلعب دورًا كبيرًا في تقسيم الحدود قبل البشر إلى كتل وتجمعات حيوية جديدة؛ ولذا، تعتقد الدولة التركية بلاعبيها الجدد – في ظل هذا المفهوم الإستراتيجي الذي تتبناه – أن خريطة العالم يجب ألا تكون جامدة، بل عليها أن تخضع للتغيير المستمر متأثرة بالأوضاع السياسية المختلفة من وقت لآخر، فمثلما تبدلت ملامح العالم الجديد في الظهور منذ نهاية الحرب الباردة كوضع أوروبا الشرقية، بتقسيم الدول حسب انحيازها لكتلة الولايات المتحدة، أو الاتحاد السوفيتى، فإنه يجب أيضًا تغيير صياغة الحدود العربية كل فترة لتتواءم مع متطلبات وتطلعات القوى الإقليمية البازغة.. وهو ما يتطابق مع السياسة التركية في الوقت الراهن.

التاريخ يعيد نفسه
لم تنس تركيا الحديثة تاريخها القديم، خاصة انتصاراتها؛ ولذا فهي تستعين هنا بمقولة “التاريخ يعيد نفسه”، ولكن مع التمييز بين مكونات كل عصر وظروفه وإمكاناته.. فقد شهد الربع الأول من القرن السادس عشر نشوء وضع جديد تمثل في بزوغ إمبراطورتين قوميتين هما (العثمانية والصفوية)، وتزامن هذا مع ضعف وتفكك القوى فى المنطقة الممتدة بين بغداد والقاهرة، إلى أن جاء عام 1514 لينفرد العثمانيون بالقوة، ويفرضون سيطرتهم على المنطقة، عندما انتصر السلطان سليم الأول في معركة (جالديران) على إسماعيل الصفوي، ما أدى إلى سقوط تبريز في العام التالي، ليتوالى بعدها – بعام واحد فقط – سقوط بلاد الشام، ولم تكن مصر بأفضل حالًا، والتي سقطت أيضا بعد عامين؛ أي في 1517، كما لم تصمد العراق كثيرًا إذ سقطت عام 1534.

لقد شكلت معركة (جالديران) مشهدًا جديدًا للمنطقة، استمر لمئات السنوات اللاحقة، حتى بدأ الغزو الغربي لها بين عامي 1798 و1918، إلى أن نجحت بريطانيا العظمى – ومعها فرنسا – في إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط.. وتسقط الخلافة العثمانية، ويحل محلها جمهورية تركيا اعتبارًا من عام 1923، ولتصبح أنقرة وريثًا لإسطنبول التي ظلت عاصمة الخلافة العثمانية لنحو 400 عام تقريبًا، ولتتجه تركيا الأتاتوركية الجديدة صوب أوروبا، بدلا من جنوبها وشرقها.

ربما تجدر الإشارة إلى أن أنقرة أخطأت في طرح تصوراتها المشار إليها، فلا التاريخ سيعيد نفسه – كانتصارها في معركة جالديران لتهيمن على المنطقة – ولا حتى بشأن إعادة تصويب أخطاء “معاهدة لوزان”؛ لأنها عندما تدعي حقها في الإشراف على الموصل وكركوك – وفقًا لتصريحات إردوغان – فهي تنسى بندًا رئيسيًا بالمعاهدة التي وقعت عام ٬1923 وبدأ تنفيذها في 1924، ويقضي هذا البند باعتراف الجمهورية التركية الجديدة بأنها الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية في حدودها المستحدثة، وشكلت المعاهدة تغييرات كبيرة للموقعين عليها٬ حيث تلاشت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية، ولم يعد لهما وجود على الإطلاق.

وهكذا الحال بالنسبة للممالك الإيطالية واليونانية والرومانية التي تحولت إلى دول هي الأخرى.. وينطبق هذا على الجمهورية التركية الجديدة التي أعلنت تخليها عن جميع مطالبها في مصر والسودان والحجاز وعسير واليمن وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، التي تتألف من سوريا ولبنان وفلسطين والمملكة الأردنية، ليس هذا فحسب، فقد ألغت “معاهدة لوزان” معاهدة “أوتشي” أو “معاهدة لوزان الأولى” الموقعة عام ٬1912 وفيها طالب العثمانيون بسلطانهم على أراضي ليبيا.

وللتعريف بمعاهدة “قصر شيرين”، فقد تم توقيعها عام 1639 بين الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، أي بعد 125 عاما تقريبا من معركة “جالديران” بينهما وغيرها من الحروب الدامية للسيطرة على بلاد ما بين النهرين والقوقاز، وهي المعاهدة التي حلت محل “معاهدة أماسيا” لعام ٬1555 التي أعقبت معركة “جالديران” بسنوات، واعترفت بملكية الإمبراطورية العثمانية لما يعرف الآن بالعراق وسوريا، مقابل اعتراف الجانب العثماني للصفويين بملكية أرمينيا٬ أو ما يعرف حاليًا بجمهوريتي أذربيجان وجورجيا، وجمهورية داغستان الروسية.

والعنصر الأهم هنا هو تطابق وضع “معاهدة قصر شيرين” مع “معاهدة لوزان”، إذ إن الأطراف الموقعة على معاهدة “قصر شيرين” لم يعد لها وجود بالشكل الذي كان وقت التوقيع على المعاهدة، وبما يكفي لإقناع مواطني المنطقة بأن مستقبل الشرق الأوسط لا يمكن تصوره استنادًا إلى معاهدات الماضي البعيد بين إمبراطوريات أًصبحت ماضيًا وغير موجودة على أرض الواقع الذي نعيشه، وانتهى اسمها من الوجود، وبالتالي، لا يحق لأي طرف المطالبة بإحياء الأطماع القديمة بموجب المعاهدات المشار إليها، كما تتطابق المعاهدتان في مسألة تضمنهما بنودًا متناقضة، وتعقيدات في تفسيراتها، فنصوص “لوزان” تهدد سلامة أراضي الجمهورية التركية نفسها، كذلك لم تخل “قصر شيرين” من مخاطر على إيران إذا أصرت على إحيائها؛ نظرًا لأنها تشكل في هذه الحالة تهديدًا خطيرًا على الحدود الإيرانية الراهنة كدولة قومية.

ونستخلص مما سبق، أن الحديث عن تقسيم سوريا والعراق، وتأسيس مناطق نفوذ جديدة للقوى القومية بالمنطقة٬ أيا كان ما يعنيه ذلك على أرض الواقع٬ فلن يفيد أي قوة، سواء داخل أو خارج المنطقة، وبالتالي فمن الأسلم عدم العبث بحدودها واللعب بها مجددًا.

عودة الحلم العثماني القديم
لم يكن الميل التركي نحو الشرق وليد اللحظة، فالتفكير في التحرك صوب منطقة الشرق الأوسط بعربه ومسلميه وعجمه، استمر التخطيط له منذ عهد حزب “الرفاه”، الأب الروحي لحزب “العدالة والتنمية”، أي منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، ليسيطر التفكير التوسعي على الأتراك بالتزامن مع بزوغ قوة حزب التنمية والعدالة في 2002..

ولذا، فإن ما يجري حاليًا من تطورات سياسية في بعض البلدان بالمشرق العربي وتحديدًا سوريا والعراق، يجعل من قراءة المستقبل أمرًا صعبًا نتيجة ما يجري من تقسيم مرحلي حقيقي في أراضي هذين البلدين العربيين، فسوريا تنهش فيها الحرب، ويتناثر شعبها أشتاتًا بين مناطقها الموزعة ما بين سيطرة النظام، وكتل المعارضة، المعتدلة والمسلحة، الإسلامية والدموية والإرهابية، تحت شعار “داعش”، أو كما يلقب التنظيم نفسه بـ “الدولة الإسلامية”.. وتدار هذه الحرب من قبل الولايات المتحدة وروسيا؛ كقوى أجنبية، بمزاحمة بعض دول الجوار لأمريكا وروسيا في هذه الإدارة العملية للحرب، وذلك في إشارة مباشرة لإيران وتركيا، اللتين لا تقومان بعمل إلا وخدم مصلحتهما الإستراتيجية فقط.

وأدى تداخل كل هذه القوى – ومعهم إيران بطبيعة الحال – إلى صعوبة التكهن ببقاء سوريا المنهكة على نفس حدود الماضي، وفقًا لـ”سايكس – بيكو”، ويزيد الوضع تأزمًا أن خطر تقسيم سوريا يجري على قواعد عدة، طائفية، ومذهبية، وسنة، وعلويون، وقوميون، وأكراد وغيرهم، والعراق ليس استثناءً هو الآخر، فالتساؤل عن جدوى بقائه بلدًا موحدًا لم يعد يلائم تطورات الحاضر، خاصة مع تسليم أركان الحكم بالنظام الفيدرالي، فيما يسارع شماله الكردي إلى فرض خيارالتقسيم، وإقامة “دولة مستقلة”، وهو المشروع الذي تدعمه الولايات المتحدة بقوة حتى قبل احتلالها العراق.

مشكلة تركيا في الوقت الراهن أنها تدعم من يعادي النظام السوري، في الوقت الذي تذكرت فجأة كما أسلفنا “معاهدة لوزان” لتطالب ببعض المناطق الحدودية في سوريا، بالاضافة إلى ضم الموصل العراقية، ولكن الرئيس التركي لا يزال – وهو يتذكر “معاهدة لوزان” – ينسى أن المعاهدة قضت بإنهاء إمبراطورية الخلافة العثمانية وأن بلاده – تركيا كمال الدين أتاتورك – ورثت تركيا بمساحتها الراهنة.. ولعل الرئيس التركي لم ينتبه هنا إلى أن الموصل لم تكن تركية، وبجانب أنها مدينة ذات أكثرية سنية، يعيش فيها مسيحيون وشيعة عراقيون، وتريد تركيا في الوقت الراهن تغيير حدود “سايكس – بيكو” التي قبلها العرب مرغمين آنذاك، تحاول استغلال حالة السيولة بالمنطقة، والتداعيات الميدانية لاتفاقية 1916 التي ورثتها الولايات المتحدة، بعد تهاوي القوتين الفرنسية والبريطانية، وتلاشي نفوذهما بالمنطقة لمصلحة أمريكا، التي هيمنت على معظم بلدان المنطقة ومن بينها العراق، ويشاركها في هذه الهيمنة إيران بنفوذها الإقليمي الذي امتد إلى سوريا والعراق واليمن ولبنان.

وربما يجدر بنا القول إن إسرائيل تشارك الولايات المتحدة هذا النفوذ في المنطقة؛ باعتبارها الدولة الوحيدة التي لم تتأثر بالثورات العربية، بل استغلتها وحققت الكثير من ورائها، وكان الاحتلال الأمريكي قد دمر الجيش العراقي قبل هذه الثورات، في حين تفتت الجيش السوري في معارك وحروب شتى داخل حدود بلاده، وهو الذي لم يستعد الجولان بعد.

ووسط كل هذه الأجواء، تحاول تركيا فرض واقع جيوسياسي جديد، وتوهم نفسها بأن الظروف الراهنة التى تعيشها سوريا والعراق قد تسمح لها باقتطاع بعض المساحات من البلدين باعتبارهما “ولايات عثمانية” سابقًا.

أما حيثيات هذا الافتراض التركي، فهو أن أنقرة تقرأ المشهد، وكأن العراق وسوريا ذاهبان حقًا إلى التقسيم، ومن ثم تستبق الأحداث لنيل حصتها من الكعكة، بذرائع عدة، فتارة تقول لأسباب “الأمن القومي”، وتارة أخرى لحمايتها من مخاطر تقسيم تحركها الانتفاضات الكردية المتوالية التي تؤرق حكام تركيا.

وليس غريبًا أن تكون تركيا قد استعدت لتقسيم العراق وسوريا؛ حيث تزامن هذا التفكير مع الثورات العربية ومستحدثات الأمور في المشرق العربي؛ حيث أقامت تركيا قبل سنوات قاعدة عسكرية فى مدينة “بعشيقة” العراقية، وأرسلت إليها عسكرييها بذريعة تدريب جنود البيشمركة؛ (جيش كردستان) التابع لأكراد العراق، لتتنامى الأطماع التركية؛ بهدف استقطاع حصة في الشمال العراقي بالتواطؤ مع الحكام المحليين، برغم أنها تقاتل الأكراد في تركيا (وأعدادهم تزيد على عشرة ملايين نسمة؛ أى أكثر بعشر مرات من أكراد العراق).

هذا عن العراق الذي تتقاسم السلطة فيه الولايات المتحدة وإيران، ويشاركان بصورة رئيسية في رسم سياساته.. وبالمقابل، فإن القرار السياسي والعسكري المؤثر في سوريا يتقاسمه الروس والإيرانيون، وأمامنا الانتشار العسكري الروسي القوي في طرطوس على الشاطئ السوري، إذ تنتشر أقوى قطع أسطولها البحري، وطائراتها الحربية، وضباطها وجنودها، كما أن الروس يتحكمون في القرار الإستراتيجي لدمشق، ويسيطرون على مجريات الأمور التي تتعلق بإجراء المصالحات؛ بهدف دعم نظام بشار الأسد، وهو الوجه الآخر لدعمها العسكري المفتوح اللا محدود، ولا يقل النفوذ الإيراني قوة عن روسيا في دمشق.

وفي عودة مرة أخرى لشرح أبعاد الأطماع التركية من سوريا، فقد كشفت الأحداث الأخيرة من دعم روسيا للقوات السورية عسكريا ولوجيستيا فى ضرب قوات المعارضة والتنظيمات الإسلامية بكل أنواعها، مدى التدخلات التركىة العسكرىة، ناهيك عن ضغوط أنقرة السياسية؛ حيث احتلت القوات التركية بعض مناطق الشمال السوري (مدينة جرابلس ومحيطها)، حدث هذا مع تهديد بتقدم تلك القوات نحو الرقة، بزعم المشاركة في تحريرها من تنظيم “داعش” الإرهابي، في وقت ترى فيه واشنطن أنها مسئولة بمفردها عن تحرير الرقة؛ كي تستطيع منع انتقال قوات “داعش” المهزومة من الموصل (متى انتهت معركتها) إلى الرقة.

اجمالا.. تسعي تركيا لاستعادة أمجادها في الماضي؛ مستغلة ضعف دول الإقليم في الوقت الراهن، وتعثر المشروع الأمريكي، الذي يكاد يقترب من حافة الفشل، وتسيرأنقرة بخطى ثابتة نحو تحقيق طموحاتها الإقليمية والدولية، التي غيبها التاريخ عنها لنحو 93 عامًا تقريبًا؛ أي منذ توقيع معاهدة لوزان عام 1923.. وتتذكر الآن انتصارها على الصفويين في معركة (جالديران 1514) التي تزامنت مع حالة الضعف التي انتابت المشهد العربي آنذاك، لتحلم من جديد بتوسيع حدودها استغلالًا لمعطيات ما تعيشه المنطقة من هزال، التي وفرت لتركيا أجواء تصاعد قوتها لتكون الأقوى بالمنطقة.. ولكن هذه المرة تزاحمها إيران خليفة الإمبراطورية الصفوية القديمة، بيد أن هذا لم يمنع الذراع التركية من أن تبسط قوتها، لاستعادة مناطق وأراضي تعتقد أن اتفاقية “سايكس – بيكو”، ومعاهدة “لوزان” اقتطعتاها منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *