قضية العمالة البحرية بين الواقع و المفروض
بقلم:
دكتور ربان / محمد الحداد
قضية العمالة البحرية تعتبر القضية الأهم شأناً في قضايا العمالة المصرية التي يجب أن تتناولها الحكومة بموضوعية، لأنها تعتبر أحد الثروات التصديرية.
و العمالة البحرية المصرية تمر حالياً بمنعطف صعب من حيث نسب البطالة المتزايدة بالرغم أنه من الممكن أن تكون المصدر الرئيسي و الأول للعملات الحرة مثل الفلبين التي تدر عمالتها البحرية 14 مليار دولار سنوياً اي أضعاف ما تدره قناة السويس و السياحة معاً و بالتالي تفوق تحويلات العاملين بالخارج ، التي في إنخفاض مستمر نتيجة للظروف التي تمر بها مصرنا الحبيبة ـ الأمر الذي يفقد الدولة لمصدر هام للعملة الصعبة .
و هنا سنتناول قضية العمالة البحرية المصرية من أكثر من منظور لنلقي الضوء عليها من كافة الجوانب و دراسة أسبابها .
أسباب المشكلة
إزدياد أعداد الحاصلين على الجوازات البحرية بما فيهم خريجي الأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا و النقل البحري .
إستمرارية ضخ أعداد كبيرة في سوق العمالة من المحالين للتقاعد من القوات البحرية من الضباط و ضباط الصف و الأفراد و الذي يتم مرتين سنوياً في أول يناير و أول يوليو .
السماح للحاصلين على أي مؤهلات دراسية من إستخـراج جواز بحري و الإنضمام لسوق العمالة البحرية مجرد الحصول على دورة تأهيلية لمدة أيام قليلة.
عدم مطابقة إمكانيات العامل لمتطلبات سوق العمل .
سهولة حصول بعض الأفراد على شهادات تأهيلية بحرية من دول أخرى بطرق غير مشروعة برغم عدم تأهيلهم.
تقلص الأسطول الوطني و تردي حالة الوحدات المتبقية منه.
عزوف ملاك السفن بما فيهم المصريين من تسجيل سفنهم تحت العلم المصري.
و بتحليل العناصر المسببة للمشكلة كل على حدة :ـ
إزدياد أعداد الحاصلين على الجوازات البحرية
تزايد في الآونة الأخيرة عدد الحاصلين على الجوازات البحرية لأسباب عديدة أهمها : ـ
التساهل في إستخراج هذه الجوازات بإعتبارها أحد مصادر الدخل الرئيسية للهيئة المصرية لسلامة الملاحـة البحرية و هي الجهة المنوط بها إصدار هذه الجوازات ، مما يمكن العاملين بهذه الهيئة الحصول على حوافز و مكافآت و التي يطلق عليها بالإثابة.
سهولة إجتياز الفحص الطبي الذي يعتبر أحد مسوغات إستخراج الجواز البحري نظراً لأن جهات الفحص المكلفة من قبل الهيئة المذكورة تكتفي بالحصول على رسوم الفحص لتصدر التقارير الطبية دون فحص المتقدم.
تحوٌل الجهة التعليمية الوحيدة بمصر و الوكيل الحصري لإجراء إمتحانات الشهادات الأهلية و عقد الدورات الحتمية من مؤسسة تعليمية بحرية تخدم القطاع البحري العربي إلى مؤسسة تجارية تحقق الربح بغض النظر عن جودة التعليم و التدريب و عدد الخريجين و هذا واضحاً جلياً في إسمها حيث تغير من الأكاديمية العربية للنقل البحري إلى الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا
و النقل البحري بما يثبت تخليها عن النقل البحري كأحد سماتها ليكون آخر تخصص في تخصصها.
تأجير الشهادات التأهيلية بمبلغ شامل لمدة عام للتوقيع على عقود اليخوت و سفن النزهة العاملة في مناطق الغردقة و شرم الشيخ و كذلك سفن الركاب العاملة في النيل فقط دون العمل عليها و ذلك في غيبة عن الهيئة المصرية لسلامة الملاحـة البحرية و نظام مراقبة دولة المينـاء و ذلك لتضليل شركات التأمين البحري في حالة الحوادث.
العمالة من المحالين للتقاعد من القوات البحرية
السماح للعسكريين العاملين بالقوات البحرية و المحالين للتقاعد من الضباط و ضباط الصف و الأفــراد من إستخراج جواز بحري بناء على
الشهــادات الأهلية التي تمنح لهم بالمعادلة طبقاً للقرار الوزاري المنظم لذلك و ذلك يكون مرتين سنوياً و بأعداد تفوق بكثير إحتياج السوق.
السماح للحاصلين على أي مؤهلات دراسية
من إستخـراج جواز بحري
تسمح الهيئة المصرية لسلامة الملاحـة البحرية لخريجي الكليات المختلفة و المعاهد المتوسطة و الثانوية العامة و ما يعادلها من شهادات فنية و الشهادات المهنية الصادرة من مراكز التدريب المهني و مراكز التدريب بالشركـات من الحصول على جواز سفر بحري شريطة الحصول على دورة تمهيدية بالأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا و النقل البحري و إجتياز الكشف الطبي الذي سبق و أن تحدثنا عنه و الأهم هو سداد الرسوم المستحقة لدى خزينة الهيئة ـ فهذا يعني أن كل من يفقد الأمل في إيجاد فرصة عمل تتناسب مع تخصصه و مؤهله فيتجه للعمل بالبحـر و لاسيما أن القانون يسمح له بالتقدم لإمتحـان ضابط بحـري أو مهندس بحري بعد إجتياز فترة عمل على متن السفن.
عدم مطابقة إمكانيات العامل لمتطلبات سوق العمل
تنازل الدولة عن سلطاتها و هيمنتها في إصدار الشهادات الأهلية البحرية و أحالت إختصاصاتها للأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا و النقل البحري لتصبح الوكيل الحصري لإصدار هذه الشهادات ، دفع الأكاديمية للخروج عن مسارها و تخليها عن مسئوليتها في دعم الأسطول العربي الموحد لتصبح مؤسسة ربحية تسعى لتحقيق الربح عن طريق قبول أعداد هائلة
من الطلبة و بالتالي لا تتمكن من تعليمهم و تدريبهم بشكل جيد يتناسب مع متطلبات السوق الملاحي.
تغاضي الأكاديمية عن تطبيق المعايير العلمية اللازمة لإختيار الطلبة المتقدمين للدراسة و التي نص عليها القانون ، الأمر الذي جعلها تقبل خريجي الثانوية العامة القسم الأدبي بأقسام الملاحة و الهندسة البحرية.
تغاضي الأكاديمية عن تطبيق المعايير الطبية اللازمة لإختيار الطلبة المتقدمين للدراسة و التي نصت عليها المعاهدات الدولية.
المحالين للتقاعد من القوات البحرية ليس لديهم الخبرة في العمل على السفن التجارية بأنواعها المختلفة و الذي يختلف تماماً عن العمل على السفن الحربية حيث أن الضابط أو الربان التجاري هو الآخر لا يستطيع العمل على جميع أنواع السفن التجارية بل يعمل على السفن المتخصص فيها فقط مثل الحاويات ـ ناقلات النفط ـ ناقلات الغاز …إلخ .
سهولة حصول بعض الأفراد على
شهادات تأهيلية بحرية من دول أخرى
يتمكن بعض الأفراد من الحصول على شهادات تأهيلية من دول ما يعملون بها على سفن ترفع نفس العمل دون الإمتحان و ذلك من خلال بعض الوسطاء و السماسرة نظير بعض
الأموال ـ و بالرغم من أن السفن التي يعملون عليها ترتاد الموانئ المصرية و ذلك في غيبة عن الهيئة المصرية لسلامة الملاحـة البحرية و نظام مراقبة دولة الميناء.
تقلص الأسطول الوطني و تردي حالة الوحدات المتبقية منه
نتيجة لسوء الإدارة و الإغداق على أهل الثقة بوظائف النقل البحري العليا إنهار الأسطول الوطني على مدار ستون عاماً حتى أصبح الآن عبارة عن مجموعة ضئيلة من السفن الخردة المتهالكة.
عزوف ملاك السفن بما فيهم المصريين
من تسجيل سفنهم تحت العلم المصري
القوانين المصرية السائدة و الرسوم و الضرائب المستحقة على ملاك السفن تجعلهم يعزفون عن تسجيل سفنهم في مصر ـ و أول العازفين هم ملاك السفن المصريين.
مما سبق يتضح لنا أن مشكلة العمالة البحرية لا تحل إلا بالحلول غير التقليدية و من الضروري أن تعكف الدولة لحل هذه المشكلة على المدى القريب و المدى البعيد لأسباب إقتصادية أهمها أن : ـ
العمالة البحرية ثروة قومية لابد من تنميتها و الإستثمار فيها مثل الفلبين لأنها مصدر رئيسي للعملات الحرة فقد
يصل عائد تصدير خدمات العمالة البحرية الفلبينية حالياً حوالي تسعة مليارات من الدولارات الأمريكية.
إقتصاد الفرد جزء من الإقتصاد القومي ـ فجميع حديثي التخرج من الأكاديمية تكبدوا أموالاً طائلة تقارب من الربع مليون جنية يعني عدم تشغيلهم إهداراً لهذه الأموال التي لم ينتفع بها لا الفرد و لا الدولة .
و الحلول القصيرة المدى تتلخص في : ـ
غلق باب إستخراج جوازات السفر البحرية الجديدة نهائياً لفترة تنتهي بتشغيل جميع العاطلين من العمالة البحرية بكافة مستوياتها .
منع قبول أي طلبة مصريين جدد بالأكاديمية لفترة تنتهي بتشغيل جميع العاطلين من العمالة البحرية بكافة مستوياتها.
إلزام الأكاديمية بعقد دورة لإعادة تأهيل جميع العاملين في البحر لسوق العمل على نفقتها حتى يمكنهم من التنافس في السوق العالمي.
إنهاء الزواج العرفي بين الأكاديمية و الهيئة و إستعادة الدولة لسلطاتها.
تشديد التفتيش على سقن النزهة و اليخوت العاملة في الغردقة و شرم الشيخ و كذلك السفن النيلية.
تشديد التفتيش على شهادات المصريين العاملين على سفن غير مصرية.
و الحلول الطويلة المدى تتلخص في : ـ
السماح بتسجيل السفن المملوكة للأجانب تحت العلم المصري كتسجيل مفتوح ( FLAG OF CONVENIENCE ) مما سيسمح بوجود أعداد سفن كثيرة يمكنها إستيعاب هذه العمالة .
إنشاء إتحاد للبحارة يكون هو الجهة الوحيدة المسئولة عن تشغيلهم ، و إعتماد عقود العمل لتضمن حقوقهم ، تتبعه وكالة لتسويق العمالة ، و تكون للإتحاد إدارة منتخبة من بين البحارة لضمان الشفافية .
تحدد وزارة القوى العاملة عدد الطلبة المسموح بقبولهم بالأكاديمية كل عام حسب متطلبات و إحتياج السوق .
الإعتناء بتعليم و تدريب الخريجين طبقاً للمعايير الدولية لتسهيل تسويقهم و منع إحتكار ملف العليم و التدريب البحري.