
حوار فكري ممتع أجرته “مجلة دعوة للتفكير” مع الكاتبة المتمردة هيلانة الشيخ
حاورها: محمود العكري
بداية عرفينا على من تكون هيلانة الشيخ؟
امرأة لم تجد ذاتها إلّا إذا كتبت، لا شيء أنا، مجرد كائن يتنفس حروفا ويأكل حبرا وينام متوسدًا الورق، ورغم يقيني أن التعريف ليس ضروريا للقارئ، لكن؛ هيلانة الشيخ فلسطينية تحمل جواز سفر سعودي لها خمس إصدارات: ـ الهيلانة (ديوان)، ـ شخصيات من ورق (سيرة ذاتية)، ـ مقتطفات الهيلانة (نصوص نثرية)، ـ تبسمت جهنم (رواية)، ـ تمّوز والكرزة (رواية).
كيف يمكنك أن تفسري لنا هذا التلاقح والتزاوج بين كونك فلسطينية وفي نفس الآن تحمل جواز سفر سعودي؟ مع الأخذ في عين الاعتبار كل ما يصل إلينا من حكايات عن العلاقة الوطيدة والخفية بين السعودية وإسرائيل، هذه الأخيرة التي تعد العدو الصهيوني لكم؟
أنا أتغابى سياسيا وأتعامى عن الحقيقة التي أجهلها أو أتجاهلها ولا أكترث للوضع السياسي والديني وأعتبر الجميع بدون استثناء مذنبون، بما فيهم أنا.
هذا يعني أن مفهوم “القضية الفلسطينية” ببعدها الرمزي والثقافي التاريخي.. لا يعنيك في شيء، وأنه مجرد اختراع بشر مذنبون؟
نعم لم تعد تعنيني فلسطين كقضية. فلسطين ضحية الفلسطينيين أولا ولا نرمي تهمتنا على العرب، لا يحرر الأرض غير ترابها وحجارتها، الأرض لله والغلبة للأقوى، ومن تعنيه فلسطين فليذهب ويقاتل إن كان القتل وسيلةً للتحرر.
أحيي فيك صراحتك، وشخصيا أعرف الكثير من الأصدقاء الفلسطينيين المثقفين الذي تخلوا عن فكرة المقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية وأبقوا فقط اعترافهم بالجانب الإنساني، ترى ما السبب في ذلك؟
لأن الواقع بعيد عن مناماتنا وأوهامنا والحق لا يحتمل مهاترات وسينيوريهات.. نحن على يقين أن فلسطين لهم والمرأة التي أُغتصبت أنجبت لقيطًا وأن اللقيط مخلوق مكتمل يكبر ويكبر ولن يموت.
أين تعيش هيلانة الشيخ اليوم؟
في مملكتي التي أعشقها؛ السعودية.
كيف هي الحياة في هذا البلد؟ وهل استطعت التأقلم ككاتبة ثورية ومفكرة حرة داخل دولة لا تزال فيها المرأة محتجزة داخل روايات البطل/الرجل؟
لا، لم ولن أتأقلم فيها ولا في كل القطر العربي.. العرب وإن اختلفت ثقافاتهم يقيّدون بقيد الأعراف، التحجر في رؤوسنا وليس على الخارطة ولا في حقبة زمنية.. سنبقى عبيدا للعادات والعيب والعار والمباح والحلال؛ هذه المفردات لم ولن تنمحي منّا رغم تظاهرنا بالتحرر.. ثورتنا منقوصة وجسدنا مغروس في تربة العروبة كلنا؛ من المغرب للمشرق وإن بدا للعرب أن السعودية تحارب المبدعين فهذا تجنّي وأنا الدليل الملموس على وجود المرأة ورواياتي برهنت أن الرجل مخلوق يكتمل في رحم المرأة.
هناك سؤال دائما يزعجني للغاية، هل تعامل الدولة السعودية المرأة السعودية معاملة غير التي تُعامل بها المرأة غير السعودية؟ وهل يمكن أن ينطبق عليك هذا المثال؟
ربما شكلا.. أنا من تضع شكلا للتعامل معي عندما أرتدي عباءتي بطريقتي وأمشي بينهم البعض ينبذني والبعض يتجاهلني والبعض يحترم خصوصيتي أيضا.. المرأة وحدها تضع الحدود لذاتها ولمن يتعامل معها كيفما ترغب هي.
لكن هذا قد يعني في نفس الآن محاولةً للاختباء فقط، ما دامت على الأقل الحرب على المرأة وما الذي يجب أن تقوم به قائمة؟ أليس في هذه النظرة نوعٌ من محاولة الامتلاك لجسد المرأة عن طريق إتاحة الفرصة له للظهور؟
الجسد هذا الوعاء اللعين الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي، عبدوه ودنسوه وجسموه في لوحاتهم ونحتوه في عقولهم ولا زال الصراع فيه وعليه.. إنه الفكر البشري الأزلي منذ خلق الإنسان وتواكبت عليه كل الحضارات وهو شاغل الفلاسفة والمقاتلين والملوك والعبيد.. كيف نتاجر به ولأجله وكيف نغتنم كل بقعة منه ذخرا للخلود.. أجسادنا طريقنا الوحيد للخلاص من قيودنا.
منذ متى بدأت هيلانة الكتابة؟ وهل لذلك قصة ما؟ ثم ما الذي حثك على الاستمرار في هذا الدرب الوعر؟
منذ تعلمت الكتابة وأنا أخط الحروف على الهواء وفي مخيلتي وعلى السقف أرسمها كدمى ألهو بها طيلة الليل والنهار، أكتب كلمات ووجوه وأحفر بإظفري فوق جسدي عبارات تشبه الطلاسم، فاختلط عليّ عشق الكتابة والرسم، ولكن فعليا كتبت أول قصيدة وأنا ابنة الرابعة عشر ولا زلت أخبئها في ثنياتي. وكان الشاعر “فاروق جويدة” أول من جرفني لهذه الدوّامة الجميلة وقال لي: أنت شاعرة بالفطرة وإن كسرتِ الوزن تظلين الأجمل.
ما الذي تعنيه لك الكتابة اليوم؟ وهل لديك مشروع فكري تشتغلين عليه أم أنها مجرد خربشات للعلاج؟ هل هناك رسائل تحملها رواياتك وأشعارك أم أنّها ترفيهٌ على الذات ومحاكاة لخيالاتك؟
الكتابة ولا أجيد غيرها المتنفس الوحيد لي.. فأنا كالبركان الخامد أنفجر بما أكتب ولا وسيلة للفرح غيرها، أمارس فيها طقوس العشق والحرب والسفر والمرض والألم والسهر، ولا أتنزّه عما أكتب، لكن نصوصي لا تشبهني ولو غزلتها من خيط واقعي أفصلها لكل المقاسات والطبقات وأعي أنها ستكتسح الغد يوما ما وستكون صرعةً لمن يرفضها اليوم، ورسالتي الخالدة لمن قتل يوما من أيامي أو خدش قلبي الرقيق عمدا أو سهوا فأنا أقاتل بما أكتب وأرجم وأذبح أيضا من يستحق الموت.
ألهذا السبب يحضرُ في كتاباتك عنصر الجرأة ومحاولة الدفاع عن النفس؟ أي أنّ الكتابة لديك هي فعل مقاومة اتجاه الأضرار التي يسببها الآخر؟
نعم هي ردة فعل للفعل. وثورة أعصف بها بما لا أحتمل الصمت عنه.
ألا ترين أنّ مثال “الشيء إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده” ينطبق عليك؟ وأن المغالاة في استعمال الخيال ليس دائما محمود العواقب؟
نعم هي مجازفة بعض الأحايين، لكن لا أملك ما أخشى عليه ومنه.
ما السبب الذي يجعلك تعتمدين على زاوية النظر هاته فقط؟ وكأن الكتابة محصورة فقط على جانب من جوانبها الشاسعة؟
لا أتعمد، أنا أطلق العنان لقلمي فليكتب ما يكتب، ولا أحاول تقييد رأسي أو كبح رغبتي وغريزتي لأني أحلق بعيدا عن السرب ولا أبصر القافلة التي يساق لها الغالبية، أستمتع حد الانتشاء وأرقص بين السطور خالعة كل القيود خالعة كل القيم وكل التراكمات.. ولا أكترث لمن يغضب ولمن يفرح لأن الكتابة منهجي في الحياة وشرعي الوحيد.
نفهم من هذا أنك تكتبين لنفسك وليس للآخرين؟
عندما أكتب لا أبصر أحدا.
إذا كانت الكتابة فعلا ذاتيا منك ولأجلك، أيمكننا أن نعتبر خيالاتك التي تصوغينها في عبارات هي حاجة تريدينها وغير موجودة في واقعك؟
هي بين البينين، لا أجزم أنها واقع بحت ولا خيال مطلق، فأنا أتماهى في كل بطل أشكله وأتلاعب بملامحهِ ولا أتعنّى ذاتًا بعينها قدر ما أفرشُ النص على امتداد قناعاتي التي لا حدود ولا مسمى لها، فلربما داخلي ماركيزًا ساديًّا رقيقًا مهذبًا يحاول البزوغ ولربّما داخلي أندريه مختلف.
هل يمكننا اعتبار أن الكتابة اختراق بالأساس؟ اختراق لكلّ الأشياء التي تم تجاهلها وظلت أمورا غير مفكر فيها؟ أم أنها مجرد حالة عرضية نفرغ من خلالها مكبوتاتنا عبر تقييد الكتابة على مواضيع معينة، مواضيع نعلم أنها تفتحُ الشهية الجنسية بالأساس لدى المتلقي؟
لا يمكن اعتبارها تفريغا أو تعويضا عن المكبوت، هنا يكمن الفشل، فالكتابة وحي وإن اخترقت فينا النواقص فلن نكملها بفعل الكتابة. الكتابة لن تنجب جيلا ولا تثمر بلحا ولن تمطر ذهبا، فليست إلا نفحات عابرة ترطب الجمود وتهدد الركود قليلا.. فلا نستمني على نص إلّا لأننا غارقون بالجهل.
أظن أن هذا متعلق بالكتابة الجمالية التي تكتب من أجل الكتابة وفقط وليس من أجل خدمة الإنسان ومحاولة مده بأدوات الفهم وتطوير أساليب الوعي، ألا تعتقدين أن هذه الموجة الرهيبة التي ذهبت نحو الرواية والشعر والقصة سبب من أسباب تراجعنا الحضاري؟ أي أننا لم نعد قادرين على ولوج عالم الفكر والعلوم؟
الكارثة أننا مقلّدون ومهما تجردّنا تثقلُنا تراكمات التأريخ العالقة في رؤوسنا المسطّحة، والمسطّح يطفو ولا يصل العمق، لذا يصعب الإبحار بدون مجازفة، وإن ولج بضعٌ لا يزيدون عن عدد أصابع اليد، فالابتكار سمة الغرب، والعرب سمته التقليد، وهذا التحول نحو الرواية والقصة القصيرة بادرة جيدة ستُغربل يوما ما.. أما الشعر فنحن أهله وربّانه.
ما رأيك في المقدس؟ وهل يجب اليوم مراجعة هذا المقدس واقتحامه أم أن لهذا المجال أناسه ولا يجب على الإنسان العادي اقتحامه؟
إن كنت تقدس الكتاب الإلهي فأنا أعتبره منهل اللغة الأول ولا بد من دراسته دراسات متجددة وتفنيط مفرداته مفردةً مفردة ولا ينحصر في فئة فكل البشر لهم حق التوغل فيه وقراءته بقلوبهم وعقولهم متحدة.
ما رأيك في فقهاء الحلال والحرام الذين باتوا يسيطرون على الساحة الثقافية في الوطن العربي؟
دع كل يغني على ليلاه وأطرب قلبك بما تهواه.
هل استعمالك لبعض الإيحاءات الجنسية في نصوصك مؤداه اعتمادك على نصب الشرك للأغلبية من المتابعين الذين يهيمون في مثل هذه الخيالات أم هو اختيار بريء لا علاقة له بالتأثير على الآخرين؟
ليس بريئا، بل مقصودا ومدروسا ومتعمدا جدا، فأنا أسعى لقطف رأس القارئ وخلعه خلعا من جذوره فلا أتردد لحظة في وضع المفردة التي أثق أنها قاتلة، فالكتابة غواية أمارسها على كل جسد وفي كل معركة وهذه أسلحتي التي لا أتنازل عنها وإن قيل لي: هوّني عنّا.. سأزيد الكيل بالكيل وأحصد ما سقط في محرابي حصدا وجزرا دون رحمة، لأن النشوة في أن تشهق عندما تخترقك كلمة حد الموت.
هيلانة، هل تمارسين الكتابة واقعا أم خيالا فقط؟
قلت: بين البينين.
سؤالي ربما لم يُفهم، قصدت، هل تمارسين هذه الأشياء التي تكتبين عنها فعلا أم أنها مجرد هواية بعيدة كل البعد عن حياتك الشخصية؟
كتبت عن السحاق ولم ولن أمارس السحاق، كتبت عن الخيانة وعن الرجل والثراء والفقر والمرض.. والموت أيضا وها أنا حية ترزق.
كما تعرفين، هذا العدد قررنا أن يكون موضوعه هو “الأم”، فما رأيك بالأم؟ وماذا تحبين أن تقولي لأمك اليوم؟ وهل تحبين أن تكوني أمًّا يوما ما؟
أنا طفلة وأنجبت سبعة أبناء ولا زلت طفلة لا تكتفي من اللعب واللهو مع أحفادها السبعة أيضا، ولن أقول ل ماما: غير أحبك. الأمومة؛ غريزة لا تُعلم في مدارس ولا توارث، فالحيوانات يرضعن ويلدن والبشر يقتل بعضهن أطفالهن.. هذه الفطرة لا تتشكل ولا تحتمل الكيفيات والفلسفات الواهية.
لم أقابل في حياتي امرأةً مليئة بالألغاز مثلكِ، هل تودين أن تقولي شيئًا أخيرا نختم به هذا الحوار؟
أنا مع كل مَن حارب القلم النسائي ومع الجندرة في الأدب ومؤمنة أن المرأة لا تصنع ولا تصل ولن تصل، بالذات العربيات بدون مساندة الرجل ودعمه لها.. وأن كل مَن كتبت من زمن الخنساء لليوم ليست إلّا تتمةً للرجل. وإن تفوقت في لغتها أو جمع قراء الهراء فلا يعني ذلك أنها طفرة مهما حصدت من جوائز أو مبيعات.. تسقط عند أول منعطف يفضح سذاجتها وترتبك في حضور (رَجُلها)!! التفلسف والجمال لا يجتمعان والعمق والأنوثة لا يتواكبان والتحرر والكرامة لا يلتقيان، فأين المرأة العربية من العالم وأين الأدب العربي بالمختصر من الأدب الحق؟!!! نحن لسنا إلّا امتداد للثقافات العشوائية نتخبط مثل الكرة على جدار الفيسبوك ولا نبتكر غير المفردات.. نحن كحجارة الشطرنج تُحركنا قوّتان؛ السلطة والمال. وإن تقلّدنا يومًا سيادةً نستعرض بتجزير بعضنا فلا مجال لنا خارج الدائرة العربية الضيّقة كضيق حاجاتنا واحتياجاتنا.. لو أكملت لن أنتهي فأنا ناقمة على المشهد بأكمله؛ صالونات ومسارح تطبيل، شهادات شكر وتكريمات مجّانية تافهة… إلى آخره. حدّث ولا حرج.
