حكاية القاف والغين وفصاحة أهل السودان
بقلم / عبد المنعم عجب الفيا
الشائع بين إخواننا العرب نحن السودانيين لا نحسن نطق القاف إذ ننطقه غينا أو شبيه بالغين كما في الكلمات : رقم ، القى ، قائد وغيرها . وأتخذوا من ذلك مصدرا للتندر علينا ويحكون بعض الطرائف في ذلك . ولكن كما يقولون الجمل ما بعرف عوجة رقبته . ولكن المؤسف كدأبنا دائما أننا صدقنا ذلك وأخذناه كحقيقة مسلم بها وغير قابلة للنقاش أو التشكيك في صحتـها ، وقد لاحظت أثناء إقامتي بالخليج أن السودانيين ولا سيما المثقفين منهم يحرصون كل الحرص في كلامهم على قلقلة القاف حتى لا تخرج مثل الغينويحسون بالحرج .أذكر أنني كنت قد قدمت محاضرة عن اللهجة السودانية بالنادي السوداني بأبو ظبي وأثناء النقاش قام أحد الأخوة السودانيين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ، وقال باستعلاء : يا أخي انتو السودانيين فضحتونا ، ما قادرين حتى الآن تفرقوا بين القاف والغين ” يقصد أنني لم أفرق في حديثي في المحاضرة بين نطق القاف والغين . فقلت له يا أخي لا داعي مطلقا للشعور بالخجل أو الحرج من ذلك فإذا كنا نحن ننطق القاف غينا فمعظم العرب ينطقونها همزة أو ألفا ثم لا يجدون في أنفسهم أدنى حرج من ذلك ، بل ربما لم ينتبهوا إلى أنهم يفعلون ذلك مطلقا باعتبار أن ذلك هوالشيء الطبيعي ولكن عندما ننطقها نحن غينا يسخرون منا ويتندرون علينا ثم نطأطئ نحن رؤوسنا ولا نعيرهم بما يعيروننا به . فإذا كان الموضوع موضوع فصاحة فمن هو الفصيح ؟ ا الذي ينطق القاف غينا ام الذي ينطقها ألفا فأيهما أقرب للقاف الغين ام الألف ؟ ا ثم أوضحت له أن نطقنا هو صحيح ولا غبار عليه وأننا لسنا الوحيدين بين العرب الذين ينطقون القاف مثل الغين . كما سنبين ذلك في هذا المقال .ذات مرة طلبت من أحد الكتبة الذين يعملون معي وكان من دولة عربية شقيقة ، طباعة بعض الأوراق ، وأمليت عليه بعض العبارات إملاء ومن ضمنها كلمة ” رقم ” فكتبها ” رغم ” ولما صححته قال لي أنك قلت رغم ولم تقل رقم اا فتنبهت فورا وأدركت خبث قصده فأمسكت بالقلم ولوحت به في وجهه وقلت له ما هذا ؟ قال : ” ألم ” اا فقلت له أكتبها ، فكتبها ” قلم ” قلت ولكنك قلت ” ألم ” ففهم قصدي وطأطأ رأسه خجلا اا .أن ظاهرة قلب الحروف أو نطق حرف مكان حرف آخر ظاهرة شائعة في جميع اللهجات العربية وأكثر من ذلك أنها ليست قاصرة على اللهجات المعاصرة بل هي ظاهرة قديمة عند العرب قدم اللغة العربية ذاتها ، وقد وقف فقهاء اللغة الأوائل عند هذه الظاهرة وسموها ” القلب ” وقاموا برصدها ووجدوا أن كل قبيلة من القبائل العربية تخصصت في قلب حرف معين إلى حرف آخر فقبيلة تميم مثلا عرفت بقلب الهمزة أحيانا إلى عين تماما مثل ما نفعل نحن عندما ننطق سؤال سعال . فنسبوا هذه الظاهرة إلى تميم وقالوا عنعنة تميم . وبعض قبائل ربيعة عرفت بقلب الكاف شينا لا سيما كاف خطاب المؤنث فيقولـون عليـش ومنـش أي عليـك ومنـك ولا تزال هذه الظاهرة موجودة في بعض دول الخليج وعرفت قديما بالكشكشة فقالوا كشكشة ربيعة . كما عرفت عند قبائل اليمن بالشنشنة . حيث كانوا يقلبون الكاف شينا أيضا فيقولون : لبيش اللهم لبيش ااهناك أيضا العجعجة وهي قلب الياء جيما والجيم ياء وينسب علماء اللغة هذه الظاهرة إلى قبائل قضاعة . فكانوا يقولون شيرة ومسيد أي شجرة ومسجد . ويبدو أننا أخذنا منهم هذه الظاهرة في كملة مسيد ولا أدري هل لدينا كلمات أخرى نقلب فيها الجيم ياء غير كلمة مسيد ا كما أن قبائل منربيعة مثل مازن وبكر بن وائل كانت تبدل الميم باء كما نفعل نحن في بكان وبنبر وأصلها مكان ومنبر . وقد جارى القرآن هذه الظاهرة في بكة فيقوله تعالى : ” أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ” أي الذي بمكة .هذه إضافة إلى التبادل الذي يحدث بين التاء والطاء والذال والدال والصاد والسين والذال والزاي والضاد والظاء والميم والنون وحتى روى عن أحد فقهاء اللغة العربية القدامى أنه يكاد لا يوجد حرف واحد يسلم من ظاهرة القلب هذه .وتفسيري الشخصي لهذه الظاهرة والذي استقريته استقراء من كتب اللغة بأن اللغة العربية في الأصل مجموعة لهجات . فقد كانت لكل قبيلة من قبائل الجزيرة العربية لهجتها المميزة ولعل هذا هو السر في نزول القرآن بسبعة أحرف كما هو وارد في صحيح الحديث – أي سبع لهجات وقيل أن العدد سبعة للتضعيف والكثرة كأنه نزل بجميع لهجات العرب . ولكن عندما جاءت لحظة تدوين القـرآن ، تم تدوينه بلهجة قريش وتم استبعاد اللهجات الأخرى وأصبحت لهجة قريش هي اللهجة السائدة في الكتابة إلى اليوم وهي المعروفة الآن باللغة العربية الفصحى دون غيرها من سائر اللهجات الأخرى التي صار يطلق عليها اللهجات العامية أو الدارجة .إذن يمكن القول أن قلب الحروف الذي نسمعه اليوم على ألسنة العرب ليس جديدا وإنما هو امتداد طبيعي كان سائدا عند العرب القدماء . أذكر أنه في أولعهدي بالخليج لاحظت استعمال كلمة ” وايد ” بمعنى
كثير أو موجود بكثرة فظننت أول الأمر أنها نفس الكلمة الإنجليزية المعروفة فقلت في نفسي حتى هؤلاء لم يسلموا من تأثير الإنجليز ؟ ولكن سرعان ما أدركت أن هذه كلمة عربية أصيلة وليست لها علاقة بالإنجليزية أنها كلمة ” واجد ” أي كثير فقط قلبت الجيم يــاء ومن ذلك أغنية ديانا حداد بالخليجي ” وايد وايد هويتك “. وقلب الجيم ياء شائع في لسان أهل الخليج فهم يقولون ” ريال ” بدلا عن ” رجال ” فإذا ناداك أحدهم ” يا ريال فلا تغضب ” وفي مسجد يقولون” مسيد ” وفي جد يقولون ” يد ” .وفي عجمان يقولون ” عيمان ” . وقد عرفت هذه الظاهرة كما أسلفنا القول بالعجعجة واشتهرت بها قبائل قضاعة وهي تنسب إلى عدنان مثلها مثل مضر وربيعة وكانت منازلها شرق الجزيرة العربية منطقة الخليج الآن .كذلك لاحظت أنهم يقلبون كاف خطاب المؤنث إلى جيــم أو بالأصح إلــــى “ج ” فيقولون في عليك ” عليج ، ومنك منج ، وايدك ايدج أما في بعض المناطق مثل إمارة رأس الخيمة المعروفة ببداوتها واصالتها العربية فيقلبون كاف خطاب المؤنث إلى شين . فيقولون في ايدك وعينك ، ايدش ، عينش ، وقد عرفت هذه الظاهرة كما سبقت الإشارة بالكشكشة . وقد اشتهرت بها قبائل ربيعة بشرق الجزيرة العربية . وروى أن الشاعر القديم صاحب البيت التالي كان قد أنشده هكذا :فعيناش عيناها وجيدش جيدهاولكن عظم الساق منش رقيق اوإذا طلبنا من خليجي أن يقرأ لنا هذا البيت باللهجة الخليجية سيقرأه كالآتي :فعيناج عيناها وجيدج جيدهاولكن عظم الساق منج رقيق اقد يبدو هذا النطق للسامع أول مرة غريبا ولكن هذا هو الواقع .وإذا رجعنا للحديث عن حكاية القاف مرة أخرى نجد أن هنالك أكثر من طريقة لنطق هذا الحرف بين سائر اللهجات العربية قديمها وحديثها . بل هنالك أكثر من طريقة داخل اللهجة الواحدة . فأهل مصر والشام ينطقونه همزة أو إلفا ، وبعض أهل هذه البلاد مثل الصعيد وسيناء والشرقية وفلسطين ينطقونه أقرب إلى الكاف كما نفعل نحن . وأهل اليمن لهم نطقهم المميز للقاف وهو شبيه بنطقنا لكن فيه شئ من الشدة . وأهل الخليج ينطقونه أحيانا جيما ، فهم يقولون الشارجة للشارقة وجاسم لقاسم فالاسم جاسم أصله قاسم قلبت القاف فيه جيما .أما نحن السودانيين فننطق القاف بأكثر من طريقة واحدة من هذه الطرق هي أننا ننطقه نوعا من الغين وفي غالب الأحوال ننطقها قريبة من الكاف مثل فيقولنا ، قلم ، قال ، قتل ، دقيقة .. الخ . والملاحظة الجديرة بالوقوف عندها هي أننا لسنا الشعب الوحيد بين الشعوب العربية الذي ينطق القاف أشبه بالغين . فهنالك أهل الكويت والعراق وأهل الامارات وربما كان هنالك آخرونفهؤلاء ينطقون القاف قريبة من الغين مثل قولهم ، قصائد وقبايل ، وقصر الخ ..إلا أن الملاحظة الأكثر إثارة للدهشة هي أن نطق القاف أشبه بالغين هو النطقالذي كان سائدا بين سائر العرب القدماء كما ذهب إلى ذلك بعض فقهاء اللغة العربية . إذ يرى الدكتور إبراهيم أنيس ، عميد كلية دار العلوم سابقا والعضو المؤسس لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في كتابه ” أصوات اللغة ” أن نطق السودانيين للقاف نوعا من الغين هو النطق الأصلي لهذا الحرف حيثيقول : ” .. على أننا نستنتج من وصف القدماء لهذا الصوت أنه ربما كان يشبه تلك القاف المجهورة التي نسمعها الآن بين القبائل العربية في السودان وبعض قبائل جنوب العراق فهم ينطقونها نطقا يخالف معظم اللهجات العربية الحديثة إذ نسمعها منهم نوعا من الغين ” .ويواصل قائلا : ” لهذا نفترض هنا أن القاف الأصلية كانت تشبه ذلك الصوتالمجهور الذي نسمعه الآن من بعض القبائل السودانية ، إذ لا فرق بين نطق السودانيين وبين نطق المجيدين من القراء المصريين ” .والأمر الذي يؤيد رأي د. إبراهيم أنيس هذا ويؤكد أن نطق القاف أشبه بالغينكان هو السائد عند عامة العرب قول أحد المتحذلقين يفخر بنطقه للقاف ويعيب نطق غيره له :قولي يقلقل القاف قلقلةوقولي غيري يغير القاف تغييرافلو كان عامة العرب يقلقلون القاف مثلما يفعل لما كان له فضيلة عليهم ليتباهى بها . ومن ثم ندرك أن نطق السودانيين القاف نوعا من الغين سجية في اللسان العربي . مع التأكيد أن اللسان عيار اللغة وعيار اللسان الكلاموالكلام سابق للكتابة والتدوين .المصادر :1/ لسان العرب – ابن منظور – حرفا الهمزة والقاف – الطبعة الأولى .2/ الصاحبي في فقه اللغة – ابن فارس – دار الكتـب العلميـة ببيـروت ص “29” .3/ المزهر في علوم اللغة – السيوطي – الجزء الأول .4/ معجم الألفاظ العامية في دولة الامارات العربية المتحدة – د. فالح حنظل .5/ في اللهجات العربية – د. إبراهيم أنيس – الأنجلو المصرية – الطبعة التاسعة .6/ أصوات اللغة – د. إبراهيم أنيس – الأنجلو المصرية .حكاية القاف