رحلة فى أفكار جلال أمين.. الباحث عن التفاؤل
منذ نحو أربعة أعوام فى رثاء شقيقه الكاتب والدبلوماسى الراحل حسين أمين، قال “لم أعرف شخصا فى حياتى ولا سمعت عن أحد جمع مثل هذا الجمع بين الثقافتين العربية والغربية مثلما فعل أخى حسين أمين”، والأمر ذاته ينطبق على الدكتور جلال أمين الذى قضى مؤخرا ووارى ثرى مصر التى أحبها ودافع عن دولتها الوطنية وأمتها العربية، فيما يعد أمثولة “لأفكار التفاؤل التاريخى بمستقبل وطنه وشعبه مع عقل نقدى مستعد دوما لمراجعة الأفكار من أجل مستقبل أفضل”.
ورغم أنه أكاديمى متخصص فى الاقتصاد، فإن الدكتور جلال أمين الذى ولد عام 1935 كان يقول عن نفسه إنه يحب الأدب أكثر مما يحب علم الاقتصاد، لذا قبل على الفور تكليفه برئاسة لجنة التحكيم فى جائزة البوكر العربية عام 2012 واعتبرها “مهمة واعدة بقدر كبير من المتعة والفائدة”، فيما كشفت هذه التجربة من منظوره عن “أن لدينا حصيلة كبيرة من الأعمال الأدبية الرائعة الآتية من مختلف البلاد العربية والتى يحار المرء فى أيها أفضل من الأخرى.”
وأوضح جلال أمين بمنظوره الثقافى التاريخى المتفائل أنه وجد فى كثير من الروايات صفات يندر أن تجتمع معا مثل “الموهبة والشجاعة والحكمة”، فيما أكد أنها “ظاهرة لم يعد فيها شك” ولمسها وعاينها بنفسه منذ أن اختير رئيسا للجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية والشهيرة “بجائزة بوكر العربية” الأمر الذى أتاح له فرصة الاقتراب الحميم من الأدباء العرب.
وفى الوقت ذاته، فإن جلال أمين الذى قضى فى الخامس والعشرين من شهر سبتمبر الجارى حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 2013، واعتبر أن الخطر الأساسى على مستقبل العرب هو “خطر الغيبوبة الفكرية والبعد عن العقلانية.
وتكشف مؤلفاته وكتبه العديدة مثل “ماذا حدث للمصريين” و”وصف مصر فى نهاية القرن العشرين” و”عصر الجماهير الغفيرة” و”رحيق العمر” عن اهتمام بالغ باستشراف المستقبل لينضم هذا المثقف المصرى وابن الأديب والكاتب الكبير أحمد أمين لكوكبة من الآباء الثقافيين المصريين الذين انهمكوا فى جهود ثقافية للإجابة عن أسئلة المستقبل مثل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى كتابه “مستقبل الثقافة فى مصر” الذى صدر عام 1938 فى سياق التأمل العميق والحب الكبير لوطنه وشعبه والاهتمام بمستقبل هذا الشعب وهو اهتمام يتجلى فى الكثير من أعمال الآباء الثقافيين لمصر مثل الدكتور مصطفى سويف الذى قضى فى السابع والعشرين من يونيو عام 2016 وكان بحق رائد الدراسات النفسية والإبداعية فى الحياة الأكاديمية المصرية والعربية فيما يبقى حاضرا بإسهاماته الثقافية العميقة مثل كتابه: “نحن والمستقبل”.
ولئن أوضح الدكتور مصطفى سويف “أن تصورنا الذى يتناول المستقبل يسهم فى صناعته,فتكوين التصورات حول اى مسألة من المسائل العملية جزء من شحذ الارادة,والارادة البشرية جزء من عوامل صنع التاريخ” وشدد على ضرورة “العناية بالتعليم” واطلاق طاقة التجديد والابتكار فان الدكتور جلال امين اهتم فى نظرته المستقبلية بتأثير متغيرات جذرية احدثتها ثورة المعلومات والاتصالات ومايسمى برقمنة العالم والاقتصاد المعرفي.
وإذ طرح جلال امين بقوة سؤال :”الى اين تسير مصر”؟ فانه حذر بشدة من النزعات التشاؤمية وقال هذا العالم النابغ فى الاقتصاد وصاحب التكوين الثقافى الثرى ” التفاؤل يساعد على النهضة بل قد يكون شرطا من شروطها كما ان التشاؤم يؤخر النهضة ويعطل تقدمها” مشيرا الى ان لديه من الأدلة التاريخية مايرجح هذا الاستنتاج.
وكصاحب كتابات ثقافية مهمة فى مجال “علم الاجتماع الاقتصادى” تناول الدكتور جلال أمين قضايا “الحراك الاجتماعى” مؤيدا بشدة توجه الدولة فى إقامة مشاريع اقتصادية عملاقة وموضحا أن هذا التوجه يعنى توفير المزيد من فرص العمل ومعدلات التشغيل بما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على “الحراك الاجتماعى الذى يقوم بدور المحرك للحياة الثقافية”.
كما حذر صاحب كتاب “علمتنى الحياة” من “الأصابع الخارجية” التى تحاول بث عدم الاستقرار فى ربوع الوطن والمنطقة ككل، وأكد أنه “لاحل لمشكلات مصر إلا بتوفير الأمن” مشيرا إلى قوى خارجية “ترغب فى تنفيذ مشروع معين يتم التخطيط له ويتطلب تدهور الأحوال فى مصر”.
واذا كانت مصر تحارب الإرهاب دفاعا عن العالم كله واتساقا مع رسالتها الحضارية وشخصيتها الثقافية فالشخصية المصرية-كما قال جلال أمين- طيبة فى جوهرها ومحتفلة بالحياة فيما تبغض بطبيعتها المتسامحة التطرف والإرهاب بل وكل مظاهر العنف والقسوة .