ملاحم البطولة على ضفتى القناة مابين نخيل القناة ونخيل سيناء
بقلم / سهام عزالدين جبريل
يأتى اكتوبر ليعيد الينا ذكريات نابضة فى الوجدان ترسم صور مضيئة تروى حكايا وطن وبطولات شعب اقام على ضفتى القناة ربط بينهم ذلك الحبل السرى الذى ظل دوما شعلة موقدة فى الوجدان المصرى ، فعلى ضفافها كانت حكايا الابطال وملاحم البطولات التى سجلتها اشجار النخيل الممتدة هاماتها على ضفاف القناة لتحكى سنوات الصمود والدفاع عن الوطن تحكى اشجارها الباسقة فى الليالى المقمرة كيف كانت صامدة تحارب تسجل لحظات بطولات حرب الاستنزاف والتى استمرت سنوات لمواجهة العدو الاسرائيلى الجاثم على ارضنا الطيبة فى سيناء على الضفة الشرقية للقناة ،،،
كانت حرب الاستنزاف والتى عرفت (بالعبرية: מלחמת ההתשה) بحرب الألف يوم كما أطلق عليها بعض الإسرائيليون ،
وهو مصطلح أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على بدأت أحداثها عندما تقدمت المدرعات الإسرائيلية صوب مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها يوم 1 يوليو، 1967، فتصدت لها قوة من الصاعقة المصرية بنجاح فيما عرف ( بمعركة رأس العش ) وبعدها تصاعدت العمليات العسكرية خلال الأشهر التالية خاصة بعد مساندة العرب لدول المواجهة أثناء مؤتمر القمة العربية في الخرطوم ، ورفض إسرائيل لقرار مجلس الأمن 242 الداعي لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلها عقب انتصارها الخاطف على العرب خلال حرب يونيو1967م .
استمرت الحرب لنحو ثلاث سنوات، وخلالها استهدفت غارات سلاح الجو الإسرائيلي المدنيين المصريين وضرب المدارس لارهاب الاطفال مث مأساة مذبحة بحر البر، كانت محاولات العدو وهدفها إخضاع القيادة السياسية المصرية، مستخدمين في ذلك مقاتلات الفانتوم الأميركية الحديثة. كما استعان المصريون بالخبراء السوفييت وصواريخ الدفاع الجوي السوفياتية لتأمين العمق المصري. وشهدت الحرب أيضًا معارك محدودة بين إسرائيل وكل من سوريا والأردن والفدائيين الفلسطينيين .
وفي 7 أغسطس، 1970 انتهت المواجهات بقرار الرئيس عبد الناصروالملك حسين قبول مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار. ولم تؤد الحرب إلى أي تغييرات في خطوط وقف إطلاق النار، ولم تنجح كذلك المساعي الهادفة للتوصل إلى تسوية سلمية بسبب التعنت الإسرائيلي، وانما سادت حالة من اللا سلم واللا حرب ، والتي أدت بدورها إلى نشوب حرب أكتوبر بعد ثلاث سنوات.
فى تلك الفترة كانت اشجارالنخيل توثق بطولات لم تكتبها السطور وتصورها عدسات جذوع اشجارالنخيل وتنشد فروعها انشودة شعب وملحمة بطولة لاتنتهى حكاياتها فكانت رسائل التواصل بين ضفتى القناة بين الشاطىء والصحراء رسائل لاتنتهى تؤكد صمود الجبهة المصرية واصرارها وعزيمتها وعقيدتها الثابتة فى الدفاع عن الوطن وإسترداد الارض
السليبة
ومع استكمال الخطوط الدفاعية وتماسكها في نطاقات عميقة غرب القناة، تكونت إحتياطيات الجبهة خفيفة الحركة. وكانت الخطط النيرانية تعتمد على المدفعية بأعيرتها المختلفة. وعندها بدأت الدوريات المصرية المقاتلة من المشاة والقوات الخاصة والمهندسين في التسلل شرقا، ومهاجمة المواقع الدفاعية الإسرائيلية، مع التركيز ضد المناطق الإدارية الإسرائيلية وكانت المدفعية تؤمن أعمالها بالنيران.
كما استمرت معارك المدفعية والتراشق بالنيران طوال مرحلة الصمود، استهلكت فيها آلاف الأطنان من الذخائر بمعدل فاق جميع الحروب السابقة. إضافة إلى نشاط أفراد القناصة المهرة، الذين دربوا لقنص أفراد الجيش الإسرائيلي وقادته، سواء في نقاط المراقبة، أو أثناء تحركهم على الضفة الشرقية للقناة.
كانت اشجار النخيل هى المصدات التى تتلقى الضربات وتحمى القناصة من غدر ضربات العدو، والتى مازالت تلك الاشجار التى أصابها مااصابها من رصاصات وشظايا اخترقت جذوعها ولكنها مازالت قائمة حتى يومنا هذا كشاهد طبيعى عن ملاحم بطولات لاتعد ولاتحصى ،،،
وفى داخل العمق فى سيناء وخلف خطوط العدو كانت تدار رحى ملحمة المقاومة والمواجهة فكانت اهم اهدافها هى الحفاظ على افراد الجيش المصرى الذى حصر فى مدينة العريش حيث الدور الوطنى الحقيقى يدار داخل بيوت مدينة العريش ، حيث قامت مجموعة بتسليم بعض البيوت ماكينة عمل البطاقات الشخصية حيث قام مجموعة مدربة من الأهالى لعمل بطاقات هوية للضباط والجنود الذين إستضافتهم بيوت المدينة حتى لايقعوا أسرى فى قبضة ضباط وجنود الإحتلال ، حيث تم فتح بيوت مدينة العريش لإستضافة أفراد القوات المسلحة من الضباط والجنود ، حيث كان يتم تصويرهم فوتوغرافيآ وعمل بطاقات شخصية جديدة لهم بالزى المدنى وتسجيلهم على أنهم من مواليد سيناء ويعملون في وظائف مدنية بها مثل عامل موظف تاجر مدرس …الخ وكان يتم تهريبهم إلى القاهره عن طريق السبخه والبحيرة أوعن طريق عمان “الأردن “..وسجل أبناء سيناء حافل بالبطولات
وتحولت بيوتنا فى مدينة العريش إلى مراكز لعلاج الجرحى والمصابين من المجندين والضباط والإشراف على علاجهم من قبل أطباء وصيادلة وممرضات
كما تحولت بيوتنا إلى مشاغل لخياطة الملابس والجلباب البلدى ليرتدية الضباط والجنود وداخل البيوت تجمعت السيدات من جيران كل حى من أحياء المدينة وجهزت الأفران لإعداد الخبز والطعام للضيوف لتقديم الوجبات لهم ، وقد قام بهذه الأدوار الأطفال الصغار بمعاونة الكبار في منظومة حب رائعة ضمت أبناء الوطن وحماته في داخل هذه البيوت التي كانت ملاذا أمنا في قرار مكين ،،،
فى حين قام فريق من أبناء سيناء بدوها وحضرها بتجميع وتوصيل الجنود والضباط التائهين فى الصحراء جراء قرار الأنسحاب الخاطئ والعاجل إلى ماوراء القناة للضفة الغربية وتشكلت فرق بحث عنهم فى متاهات الصحراء ودروبها ، وتقديم العون لهم والكل يشهد معونتهم الصادقة فقد كان المواطن السيناوى البسيط يقاسم الجندى أوالضابط المأكل والمشرب ويعطية الملابس التى يحتاجها والكفيلة بتنكرة حتى لايقع أسيرآ فى قبضة الجيش الأسرائيلى ، كما كان من الطرق المتبعة في ذلك هو القيام بعملية التمويه والنقل في الخفاء للجنود والضباط عبر الصحراء عن طريق الجمال وصولآ لمنطقة الملاحات عند بحيرة البردويل أو إلى مدينة بئر العبد حيث تنتظرهم قوارب ومراكب صيادو البحيرة لتوصيلهم فى جنح الظلام لمدينة بور فؤاد حيث يتم نقلهم ألى البر الغربى من القناة السويس ، حيث تتسلمهم المخابرات المصرية في بورسعيد ،،، وقد استخدم أهل سيناء دوابهم من الجمال والحمير والخيول في عملية النقل التي لم تتنتبه لها قوات الإحتلال ،،،
ومثل الجمل سفينة الصحراء دورا بطوليا فى عملية النقل حيث كان يسبح في الماء لنقل الجنود عبر قناة السويس وفى ذلك يشير الكاتب والخبير الاستراتيجي اللواء فواد حسين إلي أن الجمل كان الوسيلة الوحيدة لنقل المواد الغذائية لأهالي سيناء المحتجزين تحت الإحتلال الإسرائيلي بعد عدوان 1967، ثم تم إستخدامه بعد ذلك لنقل الأسلحة والذخيرة والمفرقعات إلي مجاهدي منظمة سيناء العربية بالداخل ،،،
وكان أبناء سيناء ينتظرون بالجمال في أماكن معينة شرق القنال لإستلام هذه المعدات التي تنقل إليهم من الغرب عبر القنال أو البحيرات بالزوارق المطاطية أو اللنشات الصغيرة ثم يقوموا بنقلها إلي الداخل ،،،
وبعد أن فطن الإسرائيليين إلي ذلك ، قاموا بتهجير أهالي سيناء إلي مسافة 50 كيلومترا شرق القنال ، وكانوا يقومون يوميا بعمليات قص الأثر علي طول القنال والبحيرات لمعرفة الآثار التي تتحرك من الغرب إلي الشرق أو العكس ، لذلك سقط من يد المخابرات المصرية التي كانت تشرف علي هذه العمليات وتديرها تبعيات ذلك ، فقد كان من السهل نقل المعدات والأسلحة والألغام والصواريخ إلي شرق القنال ولكن من الصعب علي الرجال حملها لمسافات بعيدة سيراً علي الأقدام دون استخدام الجمال أو الإبل ، وهنا ظهرت معادن أهالي سيناء الصامدين الذين اقترحوا علي المخابرات المصرية نقل الجمال من الغرب إلي الشرق سباحة في الماء بجانب اللنشات والزوارق المطاطية وكانت هذه أول مرة يعرف فيها المسئولين ان الجمل يعوم ويسبح في الماء !!! وتم إجراء بروفة على ذلك بواسطة مجموعة من أبناء سيناء وتم نقل المعدات والأسلحة باللنشات المطاطية التي تعبر من غرب القنال إلي الشرق وخلفها حيث تعوم الجمال ثم يتم تحميلها لتنطلق إلي الأماكن المحددة لها لتنفيذ مهامها القتالية.
ولولا الحس الوطنى الرفيع الذى كان يتمتع بها الأهالى لكان هناك خطر جسيم على أبنائنا الضباط والجنود الذين لم يدركوا أوامر الأنسحاب مماقد يجعلهم معرضين للوقوع فى قبضة يد الأحتلال.
وقد استمرت مرحلة تجميع الجنود والضباط وتوصيلهم الى غرب القناة بضعة شهور حيث تم حماية وإعادة كافة القوات المصرية الموجود في سيناء من خلال أبناء سيناء وبطرقهم الفائقة الذكاء التي غلبت قوات الإحتلال ، فكان ذلك هو أولى الخطوات لإعادة بناء الجيش المصرى الذى خاض معارك الإستنزاف والتى استمرت ثلالثة سنوات ، ثم معركة العبور العظيم في أكتوبر 1973م ،
هذه ثقافة ابناء الوطن سواء كانوا من سكان الصحراء او سكان المدن على طول خط المواجهة وكأن شفرة التواصل التى اتت من النوبة اضافت مذاقا جديدا يترجم ذلك المكون الأصيل من مكونات الامن القومى المصرى وتواصل مكونات الهوية الثقافية المصرية التى ذابت وتلاحمت من أجل الدفاع عن أرض مصروترابهاالغالى
وبالرغم من ظهور عديد من الدراسات التي ترصد الإختلاف بين المجتمعات الصحراوية والزراعية نتيجة للتجارب والخبرات المستمدة من البيئة الجغرافية والمؤثرات الخارجية التي يكتسبها الفرد من بيئته ويختزنها في عقله فتحدد بنيته المعرفية، إلاأن هذه الدراسات أوضحت أن المنتج الثقافي الذي أفرزته مجتمعات الوادي والصحاري يحمل السمات والمقومات الأساسية للثقافةالمصرية ، فجمعت مابين بطولات وملاحم وحكاوي أهالينا السيناوية وعبر أوراق خطها باحثون ومبدعون تتكشف تدريجيا سمات ثقافة صحراوية تفاعلت مع الوادي من جنوبه الى دلتاه ومن غربة الى شرقة وإنصهرت في بوتقة الثقافة المصرية الحاكمة ،،،
حيث نجد تلك البانوراما الإنسانية الرائعة التي جسدت معالمها على أرض سيناء حيث جمعت مابين بطولات لمكافحة إحتلال إسرائيلي إستباح الارض ، ومشاهد من كتاب “بطولات على أرض الفيروز” للواء محمداليمانى ومقالات عن بطولات الأباء والأجداد من أبناء سيناء للحفاظ على الأرض والهوية والثقافة ، وصفحات ومدونات تسجل مواقف تاريخية سقطت من سطور المؤرخين ومابين شهادة حق في مذكرات الرئيس السادات وإشادته بالدور الوطنى لأهلنا في سيناء فهم شركاء القوات المسلحة في نصر أكتوبر والتي وثقتها شهادات كبار القادة والعسكريين وترجمتها أنواط البطولة وأوسمة التكريم لسكان حافظوا على كل ذرة من تراب الأرض المباركة ، ومحاولات الدفاع عن تاريخ مشرف وإجتهادات ومحاولات لتوثيق ملاحم سقطت من ذاكرة التاريخ ولكنها لم تسقط من ذاكرةالأبناء الذين شهدوا بعضا من فصولها والأحفاد الذين ورثوا مجدها ، مقابل معاناة خناجر الإتهام المشوه لتاريخ مشرف ومقاومة ترويج معلومات مغلوطة لطمس هوية سيناء والادعاء بيهودية هويتها ،حيث يلمس بعض من ثناياها وألامها،عادل فؤاد في كتابه “شعبنا المجهول في سيناء “وبين أنين أجداد في رائعة عبدالرحمن فهمي “دماءعلي الصحراء” شقوابين الرمال طريقا للقناة ، وحكايات نكسة واستنزاف ومقاومة ثم إنتصارمنذ 67 إلي 73، إمتزج فيها خيال المبدع بما دارعلي الأرض ، فكان “رفاعي” جمال الغيطاني، ومجموعة روايات حرب يوسف القعيد “الحرب في برمصر” – وفى الأسبوع سبعة أيام – تجفيف الدموع – حكايات الزمن الجريح –أطلال النهار” و”نوبة رجوع” محمودالورداني و”يوميات مقاتل قديم” للسيدعبدالعزيزنجم و”سيناءالموقع والتاريخ” لعبده مباشر، و”رجال وشظايا” سميرالفيلو”سبع حبات من الرمال” السيدالجندي ،حيث تجسيد هوية المكان فى كتابى فتحى رزق “رباعيات سيناء” و “جسرعلى قناةالسويس” ومايعرضها لكاتب عما كان يجرى فى خطوط الناربجبهة قناة السويس وسيناء ، وغيرهم مما كتبوا ودونوا وهو قليل من نهر لاينضب ومازال بأعماقه الكثير من الحكايا والأحداث ، ومابين أشعارصلاح عبدالصبور وأحمد فؤاد نجم وفتحي سعيد وعبدالرحمن الابنودي وغيرهم ،وبين تراث ديني معالمه وادي طوي وطريق سلكته العائلة المقدسة ودروب قطعها حجاج في طريقهم للقدس وعرفات ، ومساجد وأديرة يُذكرفيها الله ، وبقايا قلاع وحصون وآثار حروب ومشاريع محدودة وتهميش لأرض وبشر…
مابين كل ذلك تتكشف ملامح ثقافة أرض رفضت القطيعة وارتوت بدماء مصريين جمعهم حب الوطن ولم تفرقهم حتى المسافات علي مرالعصور..
ولأنه ولاتزال كثير من صفحاته لم تُكتب بعد، وأخري تستحق أن نعيد قراءتها ثقافيا ، ومن منطلق ذلك أظن أن إدراكنا للشفرات المتعددة في مصر التي تعرف بها الفردعلي ذات هو علي الآخرين وإكتشاف إمتدادها وجذورها وتناغمها في سياق التيار العام للثقافة المصرية ، وفسيفساء نسيجها الذى ذاب واندمجت مكوناته عبر السنين التي أضحت ضرورة للتواصل بين أبناء وطن واحد، لإستعادة كل اللحظات العظيمة التي إلتف عليها كل المصريين حول راية واحدة، فتحول الكل إلى واحد،،،
فما احوجنا اليوم الى ذلك الرافد الذى يقوى قيم غابت عن البعض ويعضد تلك الهوية والرابطة الممتدة من سيناء شرقا وحتى مطروح غربا ومن الدلتا شمالا وحتى النوبة ووادى حلفا جنوبا ، إنها الهوية التي تجمعنا جميعا بما فيها من مفردات تمثل مكون أصيل من مكونات الشعب المصري وجذوره ، حيث كل له مذاقه الخاص والرائع ، فكل رافدا منه يصب في بوتقه تجمع الشرائح الاخري من أبناء الشعب المصري والذى أنتج لنا ذلك المجتمع الفريد الذى يشكل الهويه المصريه المميزه لشعب أرض الكنانة ، وتترجم معانى لمفردات تحمل رموزها الأرض والتاريخ والانسان والهوية .