تفسير كلام الله.. ما قاله الإمام القرطبى فى “اهدنا الصراط المستقيم”
نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ”الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان”، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة الفاتحة فى آية “اهدنا الصراط المستقيم”.
الأولى:
قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا فى هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذى فى هذه السورة أفضل من الذى يدعو به الداعى لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذى تكلم به، وفى الحديث: “ليس شىء أكرم على الله من الدعاء”. وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن فى أداء فرائضك، وقيل: الأصل فيه الإمالة، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف: 156] أى ملنا، وخرج عليه السلام فى مرضه يتهادى بين اثنين، أى يتمايل. ومنه الهدية، لأنها تمال من ملك إلى ملك. ومنه الهدى للحيوان الذى يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق.
وقال الفضيل بن عياض: (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية فى قوله عز وجل: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ): هو دين الله الذى لا يقبل من العبادة غيره.
وقال عاصم الأحول عن أبى العالية: (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه، قال: صدق ونصح.
الثانية:
أصل الصراط فى كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل:
شحنا أرضهم بالخيل حتى ** تركناهم أذل من الصراط
وقال جرير:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم
وقال آخر:
فصد عن نهج الصراط الواضح
وحكى النقاش: الصراط الطريق بلغة الروم، قال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرى: السراط بالسين من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرى بين الزاى والصاد. وقرى بزاء خالصة والسين الأصل.
وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاى لغة لعذره وكلب وبنى القين، قال: وهؤلاء يقولون فى أصدق: أزدق. وقد قالوا: الأزد والأسد ولسق به ولصق به. و{الصِّراطَ} نصب على المفعول الثاني، لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثانى بحرف جر، قال الله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]. وبغير حرف كما فى هذه الآية. {الْمُسْتَقِيمَ} صفة ل {الصِّراطَ}، وهو الذى لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وأصله مستقوم، نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.