الأدب
قرأت لك.. الشعر والفنون لـ ناهد رحيل قراءة لـ محمود درويش ويتسحاق لئور
تنهض الدكتورة ناهد راحيل فى كتابها الشعر والفنون دراسة مقارنة فى آليات التداخل، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، على فكرة انزياح الحدود بين الفنون المختلفة، وهى الفكرة التى تخالف مبدأ “نقاء الأنواع” فى النقد الكلاسيكى والذى ثارت عليه الرومانسية متبنية فهما جديدا لنظرية الأنواع؛ فلم تلتزم بالتحديدات الصارمة بين الفنون فخلطت بين أشكال عديدة .
تقول ناهد رحيل، مدرس الأدب العبرى فى كلية الألسن، جامعة عين شمس، فى الكتاب: لم يقف الشعر بمعزل عن الفنون والأنواع الأدبية المختلفة؛ فلتعدد التجارب الإبداعية حدث انزياح بين الشعر والفنون المختلفة؛ فاستعار الشعر من الفنون الأخرى تقنياتها ووسائلها التعبيرية لعرض تلك التجارب، وربما يرجع هذا التداخل إلى ضرورة حداثية تطلبت من الذات المبدعة الولوج بخطابها الشعرى إلى آفاق لم تكن تعهدها من قبل. ومع ذلك، فقد ظل لكل نوع سماته التى تميزه وتحديداته النوعية التى تفصله عن الأنواع الأخرى، ليبق القصد من التداخل هو التخفيف من سلطة النوع ومسايرة النمط الحداثى الذى طال التجربة الإبداعية بكل عناصرها.
ويناقش الكتاب ظاهرة تداخل الفنون فى الخطاب الشعرى لدى الشاعرين “محمود درويش” و”يتسحاق لئور”، وكيفية الاستعانة بأبجدياتها المتعددة وتقنياتها المختلفة وما تقدمه من عناصر تسهم فى تشكيل النص الشعرى لكل منهما، وقد تم اختيار الشاعرين لما يحتلانه من مكانة مميزة فى كل من الأدبين العبرى والعربي؛ فعلى مستوى الرؤية ، عاصر الشاعران الأحداث نفسها حيث جمعتهم قضية واحدة هى قضية الصراع العربى/ الإسرائيلي، كما أن التوجهات الفكرية والأيديولوجية كانت عاملا مهما فى اختيار الشاعرين؛ حيث تبنى كلاهما الأفكار الشيوعية الماركسية. وعلى مستوى الشكل، واكب الشاعران تجربة الحداثة واتضحت مظاهرها فى نصوصهما الشعرية.
ويمكن التعرف على الشاعرين عبر تقسيم مسيرتهما الشعرية إلى مراحل استنادا إلى العلاقة بين الشاعر والنص الشعرى، يعتبر محمود درويش (1941- 2008) أحد الشعراء الفلسطينيين البارزين فى الشعر العربى بشكل عام والشعر الفلسطينى بشكل خاص، وقد عكس خطابه الشعرى التجربة الفلسطينية على مدار تاريخها، ولذلك فلا يمكننا فصل “الأنا” و”النحن” أو الذات والمجموع فى قصائده، إنما هى مسألة تغليب.
اتسمت نصوصه الأولى التى اتصلت اتصالا مباشرا مع القضية الفلسطينية بنوع من الخطابية المباشرة، ومالت إلى توظيف تقنيات أسلوبية مثل التناص والرمز التراثى وغيرها من التقنيات التى تخدم مضمون الرسالة الشعرية التى هيمنت عليها الأيديولوجيا الماركسية، كما اتضح فى “أوراق الزيتون” و”عاشق من فلسطين” و”العصافير تموت فى الجليل”، ثم حملت النصوص اللاحقة سمة البينية، حيث كمن بها بعض سمات المرحلة السابقة مع انفتاح النص الشعرى على دلالات أوسع وفضاءات أرحب وظهور ما يمكن تسميته بفاعلية الرمز التى اتضحت فى عناوين المجموعات الشعرية وقصائدها، مثل “حبيبتى تنهض من نومها” و”أعراس”، كما انفتح النص على التراث الإنسانى الذى طوره مفهوم المنفى؛ فاكتسب إحالات واضحة إلى التاريخ والدين والأسطورة.
لتأتى المرحلة التى انفصل فيها النص الشعرى لدرويش عن الخطاب الأيديولوجى المباشر بشكل واعٍ وبطرق أكثر فنية ظهرت فى مجموعتيه “ورد أقل” و”هى أغنية”؛ وظهور النزعة الذاتية التى تم الكشف عنها من خلال الابتعاد التدريجى عن صوت المجموع عبر استنطاق الماضى واستدعاء الذاكرة البعيدة، كما فى مجموعته “لماذا تركت الحصان وحيدا”، وعبر موتيف الموت كما فى “جدارية”. وظهر ما يمكن تسميته بـ “الخطاب الأنثوي” المتمثل فى مجموعته الشعرية “سرير الغريبة”. كما شهدت هذه المرحلة مطولات درويش الشعرية مثل “مديح الظل العالي” و”مأساة النرجس وملهاة الفضة” و”جدارية” و”حالة حصار” و”لاعب النرد”.
أما يتسحاق لئور (1948) فيحتل مكانا رئيسا فى الأدب الإسرائيلى، وتتناول مجموعاته الشعرية فى أغلبها الواقع الإسرائيلى الحالى من منظور سياسى نقدى ساخر، وقد عكس خطابه الشعرى منذ بدايته رؤية مختلفة للصراع تحكم فيها انتماؤه إلى الحزب الشيوعى الإسرائيلى (ركاح- القائمة الشيوعية الجديدة) الذى انفصل عن الحزب الشيوعى الإسرائيلى (ماكي) عام 1965، ليمثل الجناح الأكثر يسارية وراديكالية وفقا للأيديولوجية الصهيونية الماركسية.
بدأ “لائور” مسيرته الشعرية عام 1982 بصدور مجموعته الشعرية “ارتحال”، إلا أن بدايته الحقيقية كانت بظهور مجموعته “فقط الجسد يتذكر” التى كُتبت على خلفية حرب لبنان الأولى 1982 والتى تعد نقطة الانطلاق الحقيقية لشعره.
واعتمد خطابه الشعرى على توظيف التقنيات الأسلوبية كالتناص المستمد من العهدين القديم والجديد واستدعاء الشخصيات الدينية، كما غلب لديه توظيف عناصر البنية السردية وذلك لاقتراب الذات الشاعرة من وصف الحدث، وقد ظهر ذلك فى المجموعات “فقط الجسد يتذكر ” و”قصائد فى وادى الحديد” و”مُحب الأيام “.
واستمر الشاعر فى الاتصال بالماركسية وتحميل الخطاب الشعرى بأفكارها ومبادئها، مع المراوحة بين الذاتى والسياسي، تلك المراوحة التى بدأت ظهورها فى مجموعته “كاللاشيء”، وتأكدت فى مجموعتيه “مدينة الحوت” و”سيقف ابني”، ثم انفصل الخطاب الشعرى للئور عن المجموع الذى يمثله صوت المؤسسة الصهيونية كما اتضح فى مجموعته الأخيرة “كتاب القطيع”. وقد اتسمت تلك النصوص بتوظيف الحوار المتكئ على استدعاء الشخصيات التراثية والأسطورية من ناحية، وتوظيف المونولوج لاستبطان الذات وكشف جوانبها النفسية من ناحية أخرى، وهو ما اتضح فى مجموعته “مدينة الحوت”.
ولا يجب أن نستثنى امكانية تأثر يتسحاق لئور بالشاعر الفلسطينى محمود درويش، أو نستثنى امكانية وجود نقاط تلاق بينهم؛ فبجانب انضمام كلاهما للحزب الشيوعى الإسرائيلى وتأثرهما بالأفكار الشيوعية الماركسية، وبجانب ارتباطهما بقضية واحدة، نجد أن الشاعر محمود درويش قد ذهب فى حوار معه إلى أنه مطلع على الشعر العبرى وعلى معرفة بعدد من الشعراء الإسرائيلين، كما أن الشاعر يتحساق لئور قد كتب فصلا عن درويش بعد رحيله فى كتاب “محمود درويش شاعر الأوديسة الفلسطينية”.
وقد جاء الكتاب فى مقدمة ومدخل تمهيدى وبابين رئيسين، يتبعهم خاتمة الكتاب والنتائج التى خلص إليها. تضمن المدخل التمهيدى تعريفات أولية للفن وتصنيفات الفنون المختلفة للتعرف على تقسيم النقاد وعلماء فن الجمال للفنون، ويحتوى كذلك على علاقة الشعر بالفنون المختلفة كالفنون التعبيرية والموسيقى والسينما والتصوير، ثم يتناول ما يمكن تسميته بإرصاهات التداخل بين الفنون فى الشعر العربى والعبرى قديما.
جاء الباب الأول بعنوان (تداخل الفنون الأدبية فى الشعر العبرى والعربي) وانقسم إلى فصلين؛ الفصل الأول بعنوان (تداخل الفن القصصى فى شعر يتسحاق لئور ومحمود درويش) ويتناول مظاهر استعارة الشعر لبعض العناصر القصصية أو معظمها، وكيفية توظيف الشاعرين لهذه المظاهر فى النص الشعري. واشتملت هذه المظاهر على العنوان بوصفه أحد روافد الرواية، وتقنيات تيار الوعى المختلفة مثل تداعى الأفكار والمونولوج، بجانب عناصر الفن القصصى المتعارف عليها من أحداث وشخصيات وزمان ومكان وراوٍ.
والفصل الثانى بعنوان (تداخل الفن المسرحى فى شعر يتسحاق لئور ومحمود درويش) ويتناول توظيف النص الشعرى لدى لئور ومحمود درويش لبعض الأساليب والمعطيات الدرامية التى عملت على مسرحة النص الشعرى وابتعاده عن الغنائية، ومن هذه الأساليب: الصراع وتعدد الأصوات والشخصيات والحوار بنوعيه الخارجى والداخلي، والإرشادات السردية المستخدمة فى المسرحية وتقنية الجوقة الموظفة من المسرح الأرسطى قديما.
أما الباب الثانى فجاء بعنوان (تداخل الفنون غير الأدبية فى الشعر العبرى والعربي) وانقسم بدوره إلى فصلين، الفصل الأول وهو (تداخل الفن السينمائى فى شعر يتسحاق لئور ومحمود درويش) ويعالج كيفية إفادة النص الشعرى من التقنيات البصرية والتصويرية للفن السينمائى وتوظيف الشاعرين لمعظمها أو ما يتلاءم مع النظام الشعرى منها، ومن هذه التقنيات: السيناريو والمونتاج وأساليب التصوير السينمائي.
أما الفصل الثانى وهو بعنوان (تداخل الفن التشكيلى فى شعر يتسحاق لئور ومحمود درويش) ويتناول أساليب التشكيل المختلفة التى استمدها الشاعران من الفن التشيكيلي، وكيفية توظيف الشاعرين محل الدراسة لتقنيات الفن التشكيلى وأدوات التحرير المختلفة لتشكيل القصيدة والتى يمكن حصرها فى توظيف الفراغ، والتشكيل الهندسى للقصيدة، والأرابيسك الشعرى (أى التكرار)، وأخيرا أدوات الترقيم.
وقد خلصت الدراسة إلى إفادة الخطاب الشعرى لكل من محمود درويش ويتسحاق لئور من تقنيات الفنون المختلفة فى تطوير مستويات بناء القصيدة المعاصرة وتشكيلها، وتطويعها بما يخدم طبيعة الخطاب الشعرى وخصوصيته. ومن هنا تميزت لغة الشعر لديهما بالأشكال الحوارية الممتزجة بالنزعة القصصية والمسرحية، كما تميزت نصوصهما بتحقيق البنية البصرية داخل النص الشعرى المكتوب مفيدة من تقنيات الفنون البصرية السينمائية والتشكيلية.