الأدب

اقرأ معنا .. “العطر” رواية رجل يرتكب جرائم بحثا عن أصل الروائح

فى قصة “جرونوى” غريب الأطوار تتناول رواية العطر عالم من الروائح، ومن خلال سلسلة جرائم مخيفة وفى هذا الجو الغريب والحذِر استطاع “زوسكند” أن يخلق عالمًا خياليًا وواقعيًا في آن واحد.

تعد رواية “العطر.. قصة قاتل” للكاتب الألمانى باتريك زوسكيند، واحدة من أشهر الروايات فى القرن العشرين، كما أنها من أكثر الروايات مبيعاً، وقد ترجمت إلى 48 لغة، وباعت أكثر من 20 مليون نسخة عبر العالم.

صدرت الرواية سنة 1985 عن دار النشر السويسرية “Diogenes Verlag AG”، وهى أول الإبداعات الروائية لمؤلفها، كما أنها تحولت إلى فيلم ناجح من إخراج طوم تيكوير 2006.

ويعتقد الكثيرون أن الرواية هى إشارة إلى هتلر ووصوله الدراماتيكى للقوة، وتدور أحداث الرواية فى القرن 18 فى فضاءات باريس وأوفرن ومونبيلييه وكراس.

وتروى “العطر” سيرة حياة جان باتيست جرونوى، الشخصية الغرائبية المنبثقة من عوالم باريس السفلية والمتملكة لحاسة شم إعجازية، وتسرد الرواية تطور حياة “جرونوى” وكيف صار إنساناً مجردا من مفهومى الخير والشر، لا يحركه إلا شغف لامتناه بشحذ مواهبه فى سبر أغوار العطور والروائح، ولا يحده أى وازع أخلاقى.

تبدأ الأحداث فى سنة 1738، حيث يولد بطل الرواية، جان باتيست غرونوى، فى أحد أسواق السمك الباريسية، ورغم رغبة أمه، المعتادة على التخلى على أبنائها من السفاح، فى التخلص من الرضيع، برميه، إلا أن أمرها سيفتضح عندما سينتبه المارة ورواد السوق لصرخات الطفل المتشبت بالحياة، وهكذا يتم إنقاذ الطفل واقتياد أمه للإعدام، وتقوم بعد ذلك مرضعة بالتكفل بجرونوى إلا أنها سرعان ما تتنازل عن تربيته لتوجسها ورهبتها من غياب أى أثر لأى رائحة فى جسد الرضيع، ويتلقف أحد الرهبان الرضيع جرونوى بعد تنازل المرضعة عن كفالته إلا أنه سرعان ما ينفر منه بدوره بسبب الطريقة المقلقة التى يستعمل بها جرونوى حاسة شمه، وينتهى المطاف بالرضيع فى دار أيتام السيدة “جايار” التى تأوى الأطفال بمقابل مادى، هناك سيعيش جرونوى سنوات طفولته الأولى منبوذا من طرف أقرانه الذين لم يترددوا فى محاولة قتله خنقا فى أول ليلة له بالدار.

ورغم النبذ والمعاناة الجسدية التى سيعيشها فى دار “مدام جايار” إلا أن جرونوى سيتشبت بالحياة وسيقهر كل أمراض الطفولة القاتلة. وعلى طول الرواية، يشبه الكاتب شخصيته بالقراد الصبور الذى يعرف كيف يعيش بصمت منتظرا اللحظة الحاسمة التى سيتحرر فيها وينفذ مهمته فى الحياة.

وفى سن التاسعة ينتقل جرونوى للعمل فى مدبغة الدباغ جريمال، الرجل الصارم والفظ. وبعكس باقى الدباغين، المتذمرين من روائح المدبغة النتنة، كان جرونوى يعيش بشغف وسط كنز من الروائح والاكتشافات الحسية التى كانت تشحذ حاسة شمه الفذة، ورغم أنه كان على وشك الهلاك بسبب التهاب فى الطحال إلا أن حياته فى المدبغة كانت فرصة لاستكشاف روائح باريس التى لم تمض سنوات قليلة حتى كان يحفظها عن ظهر قلب.

وفى سنة 1753، ينجذب جرونوى، لرائحة فتاة شابة صهباء خضراء العينين، تقطن فى حارة “ديمارى” كانت رائحة ساحرة مجهولة لدى جرونوى، مما ولد لديه رغبة عنيفة فى تملك عطر الفتاة لم تشفها إلا قتله لها خنقا، كانت لحظة استنشاق جرونوى لآخر آثار العطر فى جسد الجثة هى الحاسمة فى تحديده للهدف المستقبلى لحياته، أن يتعلم كيف يصنع جميع الروائح التى تشتهيها نفسه.

ويغتنم جرونوى لقائه بالعطار بالدينى ليستعرض أمامه مواهبه الشمية، فلا يتردد بالدينى فى انتشاله من مدبغة جريمال ليوظفه كعطار متعلم فى معطرته المنتصبة فوق إحدى قناطر باريس، كان بالدينى عطارا عجوزا متمكنا من تقنيات العطارة إلا أنه كان يعيش أفولا قاسيا لموهبته فى ابتكار العطور، وكان ظهور جرونوى فى حياته فرصة لاسترجاع مجده الضائع ومواجهة المنافسة الشرسة لصناع العطور الباريسيين، وهكذا توطد بين الرجلين توافق ضمنى: جرونوى يبتكر وصفات جديدة من العطور لفائدة بالدينى مقابل اقتسام الأخير لمعارفه التقنية مع عطاره الشاب.

وهكذا نمى جرونوى خبرته فى تقنية التقطير التى تمكن من استخلاص روائح الأزهار، إلا أنه سرعان ما سيصدم بعدم قابلية تطبيق نفس التقنية لاستخلاص روائح أشياء أخرى كالنحاس الأصفر مثلا، ويسقط جرونوى طريح الفراش متأثرا بصدمة تحطم طموحه فى السيطرة على جميع روائح العالم، وحالما يخبره بالدينى بإمكانية تعلم تقنيات أخرى أكثر تطورا فى مدينة كراس يسترجع جرونوى عافيته ويقرر الرحيل.

اضطر جرونوى للمكوث مدة أطول فى عطارة بالدينى لاحتياجه لشهادة العطارة التى قايض بالدينى منحها له بابتكاره لمئات من الوصفات الإضافية تضمن لبالدينى استمرار رخاء معطرته رغم رحيل جرونوى.

فى صبيحة اليوم الذى كان فيه جرونوى مغادرا ضواحى باريس متوجها إلى كراس انهارت معطرة بالدينى فوق رأس مالكها وزوجته.

وخلال رحلته يعى جرونوى حجم كراهيته لروائح البشر، فيعتكف فى إحدى مغارات أحد جبال كانتال، ينعزل لسبع سنوات، فى مغارته صانعا عوالما تخيلية من الروائح، كان يقضى أيامه فى الاستمتاع بتذكر الروائح التى عرفها طيلة حياته، وكان دائما ما يختم ذكرياته الشمية بأرفع الروائح لديه: عطر الفتاة الصهباء المقتولة.

أثناء عزلته فى جوف الجبل، وعى جرونوى بحقيقة صادمة: عدم فرز جسده لروائح خاصة به وهو ما خلف رجة قوية فى خاطره خصوصا وأنه لا يدرك العالم إلا عبر حاسة الشم، فكان إحساسا شبيها بعدم الوجود. وهو ما سيحفزه لمغادرة الكهف واستئناف رحلته.

بعد مغادرته جبال كانتال، سيلتقى جرونوى بالماركى دو لاطاياد اسبيناس  أحد النبلاء الفرنسيين والذى سيحاول استغلال جرونوى كدليل بشرى لإثبات إحدى نظرياته العلمية، وسيغتنم جرونوى فرصة زيارته لمونبيلييه لكى يصنع عطرا يمنحه “رائحة بشرية” ويحسسه بوجوده كإنسان بين البشر، فى هذه المرحلة يصل جرونوى إلى استنتاج مفاده أن “من يسيطر على الروائح يسيطر على قلوب الناس”، وهو ما سيلهمه إلى المثابرة فى الوصول إلى ابتكار عطر يمكنه من الاستحواذ على البشر.

فى مدينة كراس، عاصمة صناعة العطور فى فرنسا، يعمل جرونوى، بفضل شهادة بالدينى، فى معطرة السيدة أرنولفى، حيث يعمق معارفه التقنية، وهناك يكتشف جرونوى وجود فتاة ذات عطر أخاذ وأبلغ أثرا من رائحة فتاته الصهباء، حينها يبدأ جرونوى فى تنفيذ جرائم قتل متتالية بغرض استخلاص العطور الطبيعية لأجساد 24 من أجمل فتيات المدينة، العذارى، وهكذا تغرق كراس فى دوامة من الرعب حيث تستفيق المدينة بصفة دورية على جثث، حليقات الرؤوس، وتنغمس فى محاولة سبر هوية القاتل المجهول.

يختتم جرونوى جرائمه بقتل لور ريشى، التى لم ينفع حدس والدها أنطوان والحماية الصارمة التى كان يحيط بها ابنته، فى تفادى نفس مصير عذارى كراس.

ويتمكن جرونوى من تركيب أكثر العطور كمالا بتوليف العطر المستخلص من جسد لور بالعطور الـ24 المستخلصة من أجساد باقى الضحايا، بعد افتضاح أمره يلقى عليه القبض ليحكم عليه بالإعدام، وعند اقتياده لساحة المدينة لتنفيذ الحكم، تحت أنظار الآلاف من سكان المدينة، يتعطر جرونوى بعطره السحرى ليفقد آلاف الحاضرين صوابهم ويدخلوا فى مجون وعربدة جماعيين تحت الأنظار المتدبرة لجرونوى. بفضل عطره المعجزة يغدو جرونوى بريئا فى أعين جلاديه ويكتسب قداسة لدى سكان كراس لدرجة أن أنطوان ريشى سيغمره بعطف أبوى وسيتبناه.

لكن وعيا منه بهشاشة وضعيته فى المدينة، للمفعول المؤقت للعطر، سيغادر غرونوى كراس عائدا إلى باريس.

وحقق غرونوى ما كان يصبو إليه وما كان محركا لوجوده، أى الرقى إلى مكانة أبرع وأحذق عطار فى العالم، وأن يكون قادرا على استمالة محبة وعطف البشر بفضل عطره السحرى. ورغم ذلك إلا أنه لم يستطع تجاوز كراهيته للبشر ناهيك عن إحباطه وحنقه الناتجين عن عدم امتلاك جسده لرائحة خاصة والذى يولد لديه شعورا مستمرا باللاوجود وبعبثية كينونته.

عند عودته لباريس، يتجه لا شعوريا إلى مسقط رأسه، أنتن أمكنة العاصمة، سوق السمك. هناك، يفرغ قارورة عطره السحرى فوق جسده، مما يحوله إلى ملاك فى أعين العشرات من الأشخاص المتواجدين فى عين المكان، والذين أغلبهم من العاهرات والسكارى والمتشردين. ينجذب إليه هؤلاء بعنف ووحشية لدرجة نهشهم لجسده وافتراسه بوحشية. نصف ساعة بعد ذلك، لم يبق لجان باتيست غرونوى وجود على وجه الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *