قضاة الإسلام.. القاضى الشاعر “أبو الحكم منذر بن سعيد” خطيب قرطبة
“القاضى الشاعر” خطيب الأندلس، الذى عرف بالورع والتقوى والخشوع والقنوع، قاضى “قرطبة”، نسبه إلى قبيلة “كزنة”، لقبوه بــ”فحص البلوط”، من أصحاب الصلابة فى الرأي لا يخشى فى الحق لومة لآئم.
بعد مجيء الإسلام، وبعد أن مكن الله لهذا الدين، كان لازما وحتما أن يكون لهذا الدين نظام اجتماعي عادل يحتكم إليه المجتمع، ويحتمى به من بطش الظالمين والمعتدين، فكان ثمرة الإسلام غلغل العدل في نفوسهم فأظهروه في أحكامهم، وفقهوا واقع الناس وملابسات الحوادث فأسهموا في إعادة الحقوق إلى أصحابها في أقرب وقت، فهم نماذج مضيئة لقضاة اليوم من أبناء الإسلام في أي مكان، وعليهم الأخذ بسننهم والاقتداء بأحكامهم، ليتحقق العدل على أيديهم، ويسود الأمن والأمان للناس في وجودهم، وتسعد الدنيا بهم.
من هؤلاء القضاة ” أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي “، الذى قال عنه أمير المؤمنين الحكم فقال ” كان فقيها فصيحا خطيبا ، لم يسمع بالأندلس أخطب منه، وكان أعلم الناس باختلاف العلماء ، شاعرا لبيبا أديبا ، له تصانيف حسان جدًا.
تولى منصب القضاء فى عهد الدولة الأموية، الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله على، أوكل إليه أمر المسلمين فى قرطبة من الخطابة والصلاة في المسجد الجامع في الزهراء، حيث تولى القضاء بقرطبة عقب وفاة القاضي محمد بن عيسى، كما أدخل الأندلس علم النظر وعلم اللغة ،وله فى ذلك الشأن كتبا كثيرة .
من ضمن مواقفه التى لا تنسى مع الخليفة عبد الرحمن الناصر، أن الخليفة الناصر جلس ذات يوم في قصره ومن حوله جلس مستشاريه وعدد من أقاربه، فسألهم ، هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل ما فعلت وبنى مثل ما بنيت أو قدر عليه؟
قالوا “لا والله ! وإنك لأوحدُ في شؤونك كلها، ما سبقك إلى هذا ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره.
حتى جاء إلى “المنذر بن سعيد”، ودخل إلى مجلس الخليفة، فوجه إليه الخليفة الناصر السؤال ذاته، فسال الدمع على لحية القاضي، وقال “لا والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله، يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكن من قيادك
هذا التمكين، مع ما اتاك الله من فضله ، ونعمه وفضلك به على العالمين، حتى ينزلك منازل الكافرين.
هنا استشاط الخليفة غضبا شديدا، ورد على المنذر بجفاء قائلا ” انظر ماذا تقول،كيف تجعلني مع الكافرين؟ وكيف أنزلني الله منازلهم؟
فرد عليه المنظر ” نعم، أما يقول الله تعالى في كتابه الكريم “وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ “
ظل الخليفة يطرق رأسه ملياً، وغلبه البكاء خاشعا، فأقبل على القاضى المنذر بن سعيد قائلا ” جزاك الله عنا وعن نفسك وعن المسلمين خيرا، وعن الدين والمسلمين أجل جزائه، وكثر من أمثالك، ما قلته هو الحق.
وأمر الخليفة”عبد الرحمن الناصر” بنقض الذهب والفضة عن السقف، وأعاده تراباً على مثيل سقف غيرة وهو يستغفر الله تعالى، وندم ندما شديدا على ما أنفق في هذا السقف ولكنها هي الدنيا.
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم حسن ابتسامي
فقولي مضحك والفعل مبكي
قحط الناس فى أواخر عهد “عبد الرحمن الناصر” فأمر القاضى (منذر بن سعيد) بالخروج إلى الإستسقاء فتأهب لذلك واستعد ، وصام ثلاثة أيام، وإستغفر من ذنبه، وأحصى حقوق الناس عليه فردها أو سألهم السماح بها ، وخرج وخرج معه الناس جميعاً ،رجالاً ونساء وولداناً .
توفي القاضي المنذر بن سعيد عن عمر يناهز 90 سنة ، بعد أن ملئت حياته بالعلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعمل، حيث ترك “المنذر”مجموعة كتب دون فيها علمه الوفير ليستفيد به من بعده الناس ، من بين هذه الأعنال العلمية التى تركها ” المنذر ” الأنباه على الأحكام من كتاب الله، الإبانة على حقائق أصول الديانة “.