مشاهد الإنسانية والموت”.. كيف تمضي أيام كورونا داخل حميات العباسية؟ (معايشة)
كتب – أحمد جمعة:
تصوير – روجيه أنيس:
فيديو- زهوة محسن:
لا ينقطع صوت “سرينة الإسعاف” داخل مستشفى حميات العباسية طوال اليوم، تُثير قلقًا على قلق بين مرضاها الذين ينتظرون كلمة واحدة تُطمئنهم لا غيرها، بسلامة عيناتهم من “كورونا”، ومع ذلك تمضي ساعاتهم بين الفحوصات والتحاليل على ثقل.
حسام سيد أحد هؤلاء الذين وفدوا على المستشفى في الصباح، بعد شعوره بأعراض تُشابه إلى حد كبير أعراض “كورونا”، كانت درجة حرارته مرتفعة، ويشعر بضيق في التنفس، لذا حولته “ممرضة الفرز” إلى قسم “7” حيث يذهب إليه حالات الاشتباه في الإصابة بـ”كورونا”، وهناك شخصوه وأجروا له تحاليل وأشعة ومسحة “كورونا”، وكان أهم ما يشغل باله أن يطمئن على نفسه وأهله: “عاوز أعرف نتيجة المسحة وأمشي على البيت.. الانتظار في الأوقات دي بتكون أصعب موقف على أي شخص”.
كانت الممرضة شيماء عمري أول من قابلت “حسام” داخل المستشفى، إذ تتواجد في “خيمة الفرز” بجوار البوابة، والتي تستقبل جميع المرضى على اختلاف أعراضهم، وتقتصر مهمتها على سؤالهم عن الأعراض، وإن كانوا من المخالطين لحالات إصابات بـ”كورونا”، والحصول على بياناتهم، حتى تتمكن من تحويلهم إلى القسم الذي سيباشرهم تباعًا، وذهابهم إليه في مسار محدد حال الاشتباه في إصابتهم بالفيروس.
تقول شيماء: “إن كان المريض مخالطًا لإحدى حالات “كورونا”، أو يعاني من أعراض تشابه الفيروس، يتم تحويله إلى قسم 7، أما إذا حضر للاطمئنان على نفسه أو أعراض أخرى يتم إرساله إلى الاستقبال، ولو كانت حالة حرجة يتم تحويلها إلى الطوارئ”. في نظرها فإن هذا النظام يوفر الوقت للمريض والجهد للأطباء.
تعمل ممرضة الفرز 6 ساعات يوميًا، وفي مناوبتها فقط تستقبل بين 200 إلى 220 مريضًا، أغلبهم من الحالات المشتبه في إصابتها بالفيروس. وبينما تتحدث جاء مريض آخر، يشكو من ارتفاع درجة حرارته، وقبل أن يجلس أعطته كمامة، وهو الإجراء المعتاد مع أي مريض، ثم طلبت أن يضع الترمومتر الحراري تحت إبطه: “حرارتك كويسة، روح قسم الاستقبال وشوف الدكتور هيقولك إيه؟”، سرعان ما انصرف: “الله يطمنك، وربنا يستر”.
عبر 20 عامًا قضتها شيماء داخل حميات العباسية، لم تُشاهد قِبلًا أزمة كتلك التي تشهد البلاد حالياً بالنظر إلى خطورتها، والخوف المصاحب للمشتبه في إصابة والمرضى الإيجابيين: “الناس لما تيجي تكشف بتكون قلقانة وخايفة، وبقدر الإمكان نطمئنهم”، ومع ذلك تتخذ مزيدًا من الحذر في التعامل: “فيه متر بيني وبين المريض على الأقل، وطوال النهار لابسة الجوانتي والكمامة”.
في قسم 7 المخصص لحالات “كورونا”، حصل حسام على جلسة أكسجين للتخفيف من معاناته من ضيق التنفس، بينما كانت الطبيبة رحاب سامي، إخصائي الحميات، تطمئن عليه بين الحين والآخر.
تشرح “رحاب” سيناريو التعامل مع حالات الاشتباه والإصابة بـ”كورونا”، باستقبالهم من “خيمة الفحص”، وإعطائهم دورًا، والانتظار في منطقة مفتوحة بالخارج للحد من انتقال العدوى، وفور دخوله العيادة، يتم قياس العلامات الحيوية، ومعرفة التاريخ المرضي “هل هو مُخالط لحالة مرضية والأعراض التي يعاني منها”، وحال اكتمال بروتوكول تعريف حالة الاشتباه الذي حددته وزارة الصحة، يتم إرساله إلى الغرفة المجاورة لإجراء الأشعة الصدرية وسحب عينات التحاليل.
وانتظارًا لظهور نتيجة “مسحة “كورونا””، يتم إرساله إلى قسم العزل، وهو قسم آخر منفصل يتم تجميع المرضى المشتبه في إصابتهم بالفيروس داخله، وغالبًا ما يستغرق الأمر بين 24 إلى 48 ساعة لإبلاغهم بالنتيجة “لو إيجابي تنقله سيارة الإسعاف إلى مستشفى العزل، أما لو كانت سلبية يتم شرح إجراءات العزل المنزلي للشخص وإبلاغه بأن يظل في منزله لمدة 14 يومًا، مع إعطائه إرشادات مكتوبة بإجراءات العزل”.
تستقبل الطبيبة رحاب أكثر من 60 مشتبهًا في إصابتهم بـ”كورونا” في مناوبتها التي استمرت 6 ساعات، وتعمل لـ5 أيام متواصلة تحصل فيها على مناوبات أخرى تصل إلى 12 ساعة كاملة بفعل حالة الطوارئ التي فرضت على المستشفى منذ بداية مارس؛ استعدادًا للجائحة، ومع ذلك تنظر إلى عملها بأنه الطبيعي الذي يجب أن يقوم به أي إنسان في ظرف بمثل هذا الوقت، فلا تريد جزاءً ولا شكورًا، إنما واجبهم الذي أدوا القسم عليه منذ اليوم الأول لعملهم: “هذه مهنتي، وهذا حق المريض عليَّ وعلى غيري، ولا أنتظر شكرًا من أحد، يكفي دعوات المرضى”.
يتواجد في قسم “7” طبيبتان وقرابة 5 ممرضات وفني معمل وآخر للأشعة، لا يتركون أماكنهم حتى انتهاء فحص المرضى المترددين.
بفعل تشابه أعراض “كورونا” مع الكثير من الأمراض الأخرى، يجري التدقيق في متابعة الحالات وأعراضها الحيوية، فتقول الدكتورة ريهام مجدي إخصائي الباطنة والحميات، إن ارتفاع درجة الحرارة ليست مؤشرًا حاسمًا على الإصابة بـ”كورونا”، بل “يوجد أسباب كثيرة للسخونة، قد تكون بسبب التهاب اللوز، أو المعدة، والبعض لا تُجرى له المسحات لمجرد أنه مصاب بارتفاع درجة الحرارة”، بل بالنظر إلى الفحص الظاهري وارتباط درجة الحرارة بباقي أعراض الفيروس: “لو شكيت إن السخونة عرض لـ”كورونا” مع وجود كحة أو ضيق في التنفس، يتم إجراء المسحة على الفور”.
توضح ريهام: “إذا جاءت نتائج العلامات الحيوية وصورة الدم والأشعة جيدة تكون الأعراض سببها مرض آخر غير “كورونا”، ويتم إبلاغ المريض به وإعطاؤه الأدوية اللازمة”.
لكن بعض الحالات التي تناظرها إخصائية الحميات، تترك أثرًا في نفسها: “صادفتني حالات توفوا في المستشفى وكان لديهم عوامل خطورة وحالتهم صعبة”، تتذكر آخر حالة توفيت جراء إصابتها بالفيروس قبل نقلها لمستشفى العزل: “كانت مريضة دخلت في غيبوبة سكر، وجالها التهاب رئوي بسبب الفيروس، ولم تتحمل وتوفيت”، وهذا يرجع إلى أن مرض السكري يقلل المناعة ويسمح للفيروس أن يتطور سريعًا.
الأمر يبدو مختلفًا مع “ريهام” بعض الشيء، إذ يعمل زوجها طبيبًا هو الآخر في حميات العباسية، ما غيّر نظامها الأسري: “قاعدين لوحدنا في البيت، وعندي طفلين، وديتهم عند والدتي؛ لأنني أعمل وقتًا طويلًا في المستشفى، ولا يوجد أحد يرعاهم وأخاف عليهم من العدوى”.
“تمريض في المواجهة”
لا ينكر أحد داخل المستشفى دور التمريض في هذه الأزمة، فهم وقود الحرب لمواجهة “كورونا”. وترى رحاب شعبان مشرفة التمريض بقسم “7”، أن “التمريض يقوم بعمل كل ما هو لازم للمرضى قبل العرض على الطبيب”، وبالتالي تحرص طوال الوقت على مراجعة الإجراءات الوقائية للجميع: “نحن معرضون لأي عدوي، وعندنا أطفال نخاف عليهم ولازم ناخد احتياطاتنا”، وتنصح زملاءها باتباع تلك الإجراءات “بنغسل إيدينا بين كل مريض ومريض، ونطهر المكان بين الكشف والآخر، ونرتدي الواقيات الشخصية دون استثناء”.
شيماء صالح أيضًا إحدى هؤلاء اللائي تم انتدابهن للعمل إلى حميات العباسية مؤخرًا، إذ تعمل بالأساس في مستشفى شبرا العام. لم تخش تنفيذ الانتداب، وكان لأسرتها عامل كبير في ذلك: “مدركون أننا نقوم بدور مهم جدًا.. وليس كلامًا بل حقيقة فعلا، وبالتالي يحاولون دعمي بكل الطرق والبحث عن راحتي”.
وهكذا كان حال أسامة البدري فني المعمل، والذي يعمل بالمستشفى منذ 5 سنوات كانت هذه الفترة هيّ الأصعب التي عايشها: “حسيت في الأول بقلق بسيط لكننا اعتدنا على طبيعة العمل حالياً”، موضحًا أنه يسحب نحو 20 عينة في شفته الواحد وربما تزيد في بعض الأيام: “المشكلة حاليًا أن أسرًا بأكملها تأتي وبعد إجراء المسحات تكون نتيجة معظمهم إيجابية”.
منذ بداية الأزمة لم يسافر البدري إلى أهله بالأقصر؛ خوفًا عليهم من نفسه: “مينفعش أنزل ربما يكون عندي “كورونا””، وينتظر أن تهدأ الأمور قليلًا حتى يُجري مسحة ويطمئن على سلبيته، ثم يغادر إلى هناك.
“كأني متطوعة في الجيش”
تنظر “أم علاء” كما يحلوا للفريق الطبي أن يناديها داخل قسم 7، أو كما عرفت هيّ نفسها بـ”ماجدة إبراهيم” إلى عملها بفخر مُضاعف، فهيّ عاملة النظافة التي لا تترك أثرًا لقمامة أو مخلفات داخل العنابر، ضمن إجراءات مكافحة العدوى: “مش خايفة على نفسي. دا شغلي وأكل عيشي، وثواب بناخده من المرضى اللي بنساعدهم، وربنا يقدرنا على خدمة الناس”.
على مدار 20 عامًا كانت “أم علاء” بين العنابر والأقسام، تتجول بحريتها دون حذر أو قلق، عايشت الكثير من الوبائيات التي مرت على حميات العباسية، يدًا بيد مع العاملين، لم تغادر مكانها، ولم تحصل على هدنة أو راحة: “كأني متطوعة في الجيش أو جامع، ومش عايزة حاجة من الدنيا غير ألاقيه في أولادي وصحتي”، مرت عليها ظروف شبيهة وتجاوزتها دون كلل: “كان فيه إنفلونزا الطيور وعدت على خير، ودي مرحلة أصعب، شغالين بقلبنا وعافيتنا، وبنقول ربنا يعديها على خير”.
تعلمت السيدة التي شارفت على الستينات وسائل حمايتها من الإصابة بـ”كورونا”: “قبل ما أروح البيت أعقم كل حاجة، ودائمًا ملمسش أي سطح بدون جوانتي، ومحافظة على لبس الكمامة”، وكان ذلك مبعثًا لاطمئنان أسرتها التي تخشى عليها في خريف العمر: “خايفين عليا طبعًا، بس أنا بشجعهم وأطمنهم. أنا مش خايفة خالص والله”. في نيتها أن تستمر إلى أقصى مدى في عملها: “طالعة معاش بعد سنتين، ولو بقى في العمر بقية أشتغل تاني طول ما فيَّ صحة وأخدم المرضى”.
تجهيزات العزل
جاء مستشفى حميات العباسية على رأس 34 مستشفى على مستوى الجمهورية حددتها وزارة الصحة؛ لتصبح مستشفيات عزل لمصابي فيروس “كورونا” بشكل تدريجي، وتقدم كافة الخدمات الطبية بداية من إجراء الفحوصات اللازمة وتشخيص الحالة وحتى العزل، وتقديم العلاج، ومتابعة الحالات بعد الشفاء والخروج.
ومنذ بداية الأزمة، يوجد بالمستشفى ٦٣ سريرًا بالأقسام الداخلية، وتم تزويده بـ٢٢ سريرًا إضافيًا، بخلاف ٩١ سريرًا للحالات المشتبه بإصابتها بفيروس “كورونا” في مبنى منفصل.
يقول الدكتور عمرو محمود نائب مدير الطوارئ، إنه بالتدريج سيتم تحويل المستشفى إلى عزل، وتوفير أماكن جديدة للمرضى الإيجابيين، مع رفع تجهيزات المستشفى وزيادة عدد الأطقم الطبية بهذه المنظومة، على أن يتم التشغيل الفعلي فور انتهاء أعمال رفع الكفاءة التي تتم حالياً.
يلفت “محمود” النظر إلى زيادة عدد الحالات مؤخرًا، حيث يستقبل المستشفى بين 400 إلى 500 حالة في المتوسط، ويرتفع إلى 600 حالة في بعض الأحيان يومياً، لكن حالات الاشتباه بالفيروس التي تجرى لها مسحات “pcr” تتراوح بين 40 إلى 50 حالة.
ومنذ “بوابة الدخول” وصولًا إلى الأقسام المختلفة، يرتدي الجميع الكمامة الطبية. يقول نائب مدير الطوارئ: “لا يعمل أحد من دون الملابس الوقائية، وهيّ متوفرة داخل المستشفى، لكن يتم تقنين استخدامها حتى لا يتم إهدارها”.
في بعض الأحيان يجد أطباء الحميات صعوبة في التعامل مع حالات الاشتباه: “مريض حاول يمشي قبل ظهور نتيجة العينة عشان شغله، أقنعناه إنه لازم يخاف على أهله أهم من الشغل، وتم حجزه لحين نقله للعزل”؛ لذا فالتعامل النفسي في رأي الدكتور عمرو جزء من العلاج.
“إحنا شغالين في أكبر مستشفى حميات في مصر.. عليه ضغط جامد وبيحصل فيه جهد كبير، والناس تعبانة في شغلها فعلًا”، حسبما اختتم نائب مدير الطوارئ حديثه.