قضاة الإسلام.. القاضى “عافية بن يزيد” رفض تشميت الرشيد واعتزل لقبول حارسه رشوة
أشهر قضاة العراق، خاصة مدينة بغداد، حيث تميز بشجاعته وعدله وإعلائه لكلمة الحق، كما كان أحد تلاميذ الإمام أبى حنيفة النعمان، والذى تلقى منه علمه، تولى منصب القضاء بها فى الجانب الشرقى، بأمر من الخليفة المهدى فى ذلك الوقت.
بعد مجيء الإسلام، وبعد أن مكن الله لهذا الدين، كان لازما وحتما أن يكون لهذا الدين نظام اجتماعى عادل يحتكم إليه المجتمع، ويحتمى به من بطش الظالمين والمعتدين، فكان ثمرة الإسلام غلغل العدل فى نفوسهم فأظهروه فى أحكامهم، وفقهوا واقع الناس وملابسات الحوادث فأسهموا فى إعادة الحقوق إلى أصحابها فى أقرب وقت، فهم نماذج مضيئة لقضاة اليوم من أبناء الإسلام فى أى مكان، وعليهم الأخذ بسننهم والاقتداء بأحكامهم، ليتحقق العدل على أيديهم، ويسود الأمن والأمان للناس فى وجودهم، وتسعد الدنيا بهم.
من بين هؤلاء القاضى “عافية بن يزيد بن قيس “، أحد تلاميذ الإمام أبى حنيفه النعمان الذى تتلمذ علي يديه، أشتهر بعدم خوفه من السلاطين، وكان لا يخشى فى الله لومة لائم.
موقفه مع الخليفة هارون الرشيد ما يؤكد على عدم خشيته فى الحق أحد، فكان ذات مرة جالس فى مجلس أمير المؤمنين، حيث كان الأمير يتحدث إليه فى أمر رفع ضده، وخلال حديث هارون الرشيد ” عطس ” فقام كل الحضور فى المجلس بتشميت أمير المؤمنين، فيما عدا القاضى “عافية”، ما أثار تعجب أمير المؤمنين من موقف القاضى “عافية “، فسأله ” لماذا لم تقل يرحمك الله “، أجابه القاضى “عافية ” قائلا ” أنك لم تقل الحمد لله ولهذا لم أقل لك يرحمكم الله”، مستشهدا بحديث رسول ألله فى ذلك، فقال له أمير المؤمنين” ارجع إلى عملك فأنت لم تسامح في عطسه، أتسامح في غيرها “.
أعتزل القاضى “عافية ” القضاء، حيث أختصم إليه شخصان وجيهان من المدينة، قام كلا منهم بتقديم ما يثبت أنه هو صاحب الحق فى الإدعاء، إلا أن ما قاما بتقديمه الخصمان من أدله تحتاج إلى التأمل والتأكد، لم يتردد كثيرا القاضى “عافية ” فى ردهم لليوم التالى، أملا منه فى إنهاء الخصومة بينهم ويتصالحا، أو يظهر له ما يثبت إدعاء أحدهما على الأخر.
أحد المدعين علم أن القاضى” عافية “يحب البلح ” الرطب”، فقام بجمع الكثير منه له، وقام برشوة حارسه كى يسمح له بالدخول على القاضى “عافية”، وعند دخوله عليه قام القاضى ” عافية ” بطرده من مجلسه، كما قام بطرد حارسه الذى سمح لهذا الشخص أن يدخل عليه بعد أن تلقى رشوة منه.
هذا الموقف جعل القاضى “عافية ” يشعر بأثر فى نفسه جراء ما حدث، ورأى أن هذا الأمر جعل نفسه تميل نحو لهذه الهدية لحبه للــ”الرطب”، فقرر أن يعتزل القضاء، فذهب إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وقال له ” أقلنى أقالك الله واعفنى “.
هذا الموقف يدل على نزاهة القاضى “عافية “، فمع أنه رفض الهدية، وقام بطرد مقدمها، ومن سهل لها، إلا أن خوفه من ألله وخشيته من عدم إحقاق العدل وإعلاء كلمة العدل، حيث أنه رأى ميلا بسيطا إلى أحد المدعين، وأن السنة تقتضى فى القضاء بالحكم أن يكون المزان متزن، وأن يكون مبدأ المساوة هو السائد فى القضاء بين الناس، فالقصد فى الإسلام من القضاء هو العدل بالإنصاف بين المتخاصمين، دون أحد عن أحد إلا بالحق.