قضاة الإسلام.. “أبو بكر الأنصارى” عالم الفرائض وقع فى الأسر على يد الروم
لقبوه بــ”قاضي المارستان”، يعتبر من أكثر الأشخاص الذين عرفوا بالمجديدين، بل وأفقههم وذلك من شدة اثره البالغ الذى تركه فى نفوس الكثيرمن تلاميذه الذين تلقوا العلم عليه يديه خاصة فى علم الفرائض والحساب، كما كان قاضى صارم وعادل لا يهاب ولا يخشى فى الحق لومة لائم.
بعد مجيء الإسلام، وبعد أن مكن الله لهذا الدين، كان لازما وحتما أن يكون لهذا الدين نظام اجتماعى عادل يحتكم إليه المجتمع، ويحتمى به من بطش الظالمين والمعتدين، فكان ثمرة الإسلام غلغل العدل فى نفوسهم فأظهروه فى أحكامهم، وفقهوا واقع الناس وملابسات الحوادث فأسهموا فى إعادة الحقوق إلى أصحابها فى أقرب وقت، فهم نماذج مضيئة لقضاة اليوم من أبناء الإسلام فى أى مكان، وعليهم الأخذ بسننهم والاقتداء بأحكامهم، ليتحقق العدل على أيديهم، ويسود الأمن والأمان للناس فى وجودهم، وتسعد الدنيا بهم.
من بين هؤلاء القاضى” أبو بكر الأنصارى”، وقع فى الأسر على يد الروم، وظل أسريا مدة عام ونصف حتى تم إطلاق صراحه، ظل فترة أسره متمسكا بدينه وحرصه على مواصلة التعبد والتعلم، حتى ولا عبد الملك أبن مروان مشيخة ” مارستان “.
من أبرز مواقفه مع القضاء، قصة ” عقد اللؤلؤ”، كان القاضى “أبو بكر الأنصارى”، حريصا على تطبيق العدل، حيث قال عنها أنه كان فى ذات يوم بمكة، وكان فى شدة الجوع ولم يجد شيئ يسد به جوعه، حتى عثر على لفافة من الحرير، فاخذها وذهب إلى منزله، وعقب فتحه اللفافة وجد بها قطع من اللؤلؤ.
قال القاضى أبو بكر الأنصارى، خرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس. فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن، فحصل لي من أولائك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك. فلما زفوها إليّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما “المراد أمينا وعفيفا يعرف أحكام اللقطة” إلا هذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال. توفي القاضي أبي بكر الأنصارى عن عمر يناهز 90 عاما وكان ذلك فى سنة 535 هجريا.