الأدب
اقرأ مع جواد على .. “المفصل فى تاريخ العرب” أهل الرعى عند العرب
نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907 – 1987) قراءة التاريخ العربي قبل الإسلام، وذلك من خلال كتابه المهم “المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام” ونناقش اليوم معنا كلمة “الرعاة”.
يقول جواد على:
وندخل فى الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر، ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شىء من الاستقرار، وإلى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة فى البوادى على نحو ما يفعل الأعراب، ثم إنهم يعيشون على الآبار وبرك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفى وضع يجعلهم شبه مستقرين فى أكثر أيام حياتهم.
وهم “أعراب الضواحى”، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم، فتصير “الخيمة” بيتًا مستقرًّا، ثم تصير “كوخًا” من طين أو من أغصان شجر، ثم تتحول بيتًا من بيوت قرية أو حى من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوى الناس، لا تتوافر فى الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطان مدن.
ولا يشترط فى الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربى الإبل أيضًا، وهم “رعاة الإبل”، والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهم رعاة الإبل، أن الرعاة يلازمون أرضهم وإذا تنقلوا طلبًا للماء والكلأ، فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون فى اختراق البوادى، لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرًا ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم، لا تستطيع الصبر على الجوع طويلا، كما أن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم، ومنازلهم هى فى الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر، ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم حياة وسط بين البداوة والحضارة، والأرض التى يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيرًا ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها، بينما تكون حياة الأعراب على الغيث فى الغالب، وعلى الآبار والتنقل.
أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم “الإبل”، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابى أن يقهر البوادى، وأن يوسع تنقله فى أنحائها، وأن يعيش فى هذه الأرضين المقفرة الشحيحة التى يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جمله بحثًا عن الكلأ والماء، ولهذا صار “الجمل” “المالَ” الوحيد الذي يملكه.