“الندابة”.. مهنة “النواح” من أجل المال أصولها فرعونية والزمن حصرها فى الريف
تتشح بالسواد من أعلاها لأسفلها، عباءتها السوداء المهترئة وصريخها هما مصدرا رزقها الوحيد، نبرتها العالية هي رأسمالها فى هذه الحياة التى تفتح أمامها أبواب العيش، عشوائيتها فى النحيب ودموعها اللتان لا يهدئان يعطيانها ميزة وسطوة عمن حولها من النسوة فى الجنازات عن أي شخص آخر، هكذا كانت الندابات فى المجتمع المصرى، أصحاب إمبرطورية “النحيب” فى الجنازات.
امرأة عادية جدا، لا يفرقها عن النساء سواء ما ذكرناه، تجدها تضحك وتسعد وتحزن، هادئة أحيانا وغاضبة فى أوقات أخرى، فهى مثل جميع السيدات، يقطع جلستها خبر وفاة أحدهم، لتقوم من جلستها وسط أسرتها، لتخرج إلى العالم بثيابها السوداء الرثة، وتنطلق فى الجنازات وتبدأ فى استعراض مهاراتها السالفة الذكر، “تولول” على المتوفى، التى ربما عرفت اسمه منذ قليل فقط، لكنك سوف تشعر للوهلة أنك أمام أحد أقارب المتوفى وربما من الأشخاص المقربين له.
والندابة فى المعجم اللغوى، هى “امرأة تحترف البكاءَ على الميِّت وتعدِّد محاسنَه”، والاسم “ندب” هو “صوت الداعي للآخر في أمر؛ صوت القوس يخرج منه السهم بسرعة؛ صوت المرأة تعدد محاسن الميت صوت المنادي-وا فلان”.
ومهنة “الندابة” التي اشتهرت في مصر لمدة طويلة وهى أيضا لها وجود فى بعض مناطق من الجزيرة العربية وبلاد الشام، كما لا يزال لها وجود فى دولة أفريقيا السمراء مثل غانا، ومع تطور العصور انحسرت منذ عشرات السنين فى مصر، إلا أنها لا يزال لها صدى فى بعض الأوساط الريفية في القرى والنجوع في المحافظات.
وتعد “الندابة” أحد طقوس الموت الغنائية التى اشتهرت فى الصعيد باسم “العديد” وتسمى المرأة هنا “المعددة” وهن النساء اللواتى يقومن بالنواح على الميت من خلال قول بعض المقطوعات الشعرية التى تستدعى البكاء ويبدأ العديد من بدء خروج الميت من البيت ولا تخرج وراءه مودعه ولكنها تصور لحظة الوداع فتقول.
ورصد أحمد أمين في كتابه “قاموس العادات والتعابير المصرية”، “المعددة”، بقوله “إنها امرأة تدعى للغناء في المأتم، وهي تستفسر أولا عن الميت ومن هو، وعلى أي حال كان، وما فضائله ومزاياه، وتصوغ من كل ذلك كلاماً في “تعديدها” يثير كوامن النفوس، ولها لسان فصيح وقدرة تامة على الإبكاء، وبعضهن يصحبن معهن الدف، فيثرن بذلك دوافع اللطم على الوجوه”.
كانت المعددة منهن تتدرب على كيفية البكاء الغزير والسريع المتواصل إضافة إلى حفظ الجمل التي كانت ترددها أثناء العمل؛ مثل: “يا جملي، سايبنا لمين يا سبعي؟ مكنش يومك يا أخويا، يا حنين يا أخويا / يا أبويا/ يا ابن..”، وكانت لهن طرائق في التعديد؛ فيتشعب حديثهن إلى نواح كثيرة؛ مرة على الغرقى، ومرة على القتلى، ومرة على الموتى الذين قضوا نحبهم بطرائق مختلفة.
ويتميز العديد بأنه يجعل لكل ميت ما يلائمه من المراثى فما يقال فى الطفل الصغير لا يقال فى الرجل الكبير ولا يقال فى المرأة.
وهناك من الروايات الدينية، ما يشير إلى أن النائحة كانت إحدى الوظائف الرائجة في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وبالرغم من تعدد فتاوى الفقهاء بتحريمه عبر التاريخ؛ فإنها ظلت وظيفة مهمة لم تبدأ بالانحسار إلا منذ عدة عقود.
وانتشر هذا الفن فى صعيد مصر فقط عند الفتح العربى لمصر عن طريق البحر الأحمر من شبه الجزيرة العربية وانتشر فى الصعيد وأصبحت هذه المنطقة مشبعه بالكثير من عادات وتقاليد العرب، وعندما نشأت هذه القبائل فن الرثاء تحول إلى مقطوعات غنائيه بكائية بلهجة صعيدية تؤديها فقط فى المأتم.
في كتاب “قاموس الصناعات الشامية” تأليف محمد سعيد القاسمي، يشير بأن “اللطامة” كانت تعد مهنة النساء المتهتكات، وأنها كانت رائجة جداً في الزمن السابق، أما في عصره فقد أصبح رواجها قليلًا، وذلك لانصباغ الزمن بغير الصبغة الماضية تمدناً وعادة وتقاليد. ومع ذلك فلا تزال طوائف منهن يندبن للندب فيندبن؛ وذلك عندما يموت أحدُ الأغنياء أو التجار الكبار، فيأتي أهله باللطامات، ويوفوهن أجورهن سلفاً، وعلى قدر ما يعطوهن من الأجرة يقمن بنظيره من العمل: إن كان كثيراً فكثير، وإن كان قليلاً فقليل.
ونقلا عن تقرير نشرته مجلة مصر المحروسة الثقافية، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يرجع الأديب خيرى شلبى العدودو فى مقدمة كتاب “فن الحزن” إلى أصول مصرية فرعونية مستندا إلى اهتمام المصرى القديم بطقوس الموت وإيمانه بعقيدة الخلود
وهو ما يتفق معه فى الرأى الباحث فى علم المصريات الدكتور أحمد صالح فى أن فن العديد كان معروفا فى العصور المصرية القديمة، واعتبر أن أول معددتين فى التاريخ هى الإلهة إيزيس زوجة أوزوريس الذى قتله أخوه بحسب الأسطورة المصرية القديمة، وأخته نفتيس، ودلل على وجود هذا الفن فى عصر الفراعنة هو الصور على بعض جدران المقابر، وتظهر فيها المعددات أو النادبات وهن يسرن خلف الجنازة ومثالا على ذلك الصورة الموجودة على مقبرة “رعموزا” أحد نبلاء الأسرة التاسعة عشر الفرعونية.
يقول الشاعر والباحث فى الأدب الشعبى محمد شحاتة العمدة: “كانت هناك امرأة تقود العديد فى الجنازات وكانت تقول نصوص قوية وتسمى بمهنة “الشلاية” ولكنها اندثرت منذ أكثر من عشر سنوات بسبب التطور.