الأدب
فعلها الفيضان.. كيف هزم نهر النيل الحملة الصليبية الخامسة؟
جاءت الحملة الصليبية الخامسة إلى مصر فى سنة 1218 ميلادية ساعية لدخول مدينة دمياط، من أجل الاستيلاء على مصر مؤمنة بأن الدخول إلى مصر يعنى القضاء على المقاومة الإسلامية، وأن ذلك هو طريقهم الأفضل إلى بيت المقدس.. لكن ماذا حدث بعد ذلك؟
ونعتمد فى هذا الموضوع على المعلومات الموثقة التى ذكرتها صفحة “قراءة جديدة للتاريخ الإسلامى” على موقع التواصل الاجتماعى “فيس بوك”.
ظلت المقاومة الإسلامية للصليبيين على أشدها باسلة رائعة، ولكن وقعت حادثة غيرت مسار القتال، فقد غادر الملك الكامل العادلية بعدما عرف بمؤامرة انقلاب دبَّرها أحد الأمراء ضده اسمه عماد الدين أحمد بن سيف الدين على بن المشطوب، على خلع الملك الكامل من السلطنة وأن يمُلكُّوا الديار المصرية أخاه الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل ليصير لهم الحكم عليه وعلى البلاد.
وخشى الكامل أن يقع بين مطرقة الأمير الخائن وسندان الصليبيين، ولكنَّ ذلك الانسحاب ضعضع صفوف المسلمين؛ مما أدى لتفرُّق جموع المدافعين عن العادلية التى سقطت بأيدى القوات الصليبية فى (19 من ذى القعدة 615هـ/ 5 من فبراير 1219م)، وشرع الصليبيون فى محاصرة دمياط، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها.
أصبح الملك الكامل فى وضع حرج، وأصبحت الجبهة الإسلامية مهددة بالانهيار، إلا أن وصول الملك المعظم عيسى من الشام نجدة لأخيه بعد يومين من تمرد ابن المشطوب أنقذ الموقف، فقوى قلب الملك الكامل واشتد به أزره، ووعده الملك المعظم بإزالة جميع المفاسد وكان الملك الكامل قد عزم قبل وصول أخيه – على ما يقال – على مفارقة البلاد وتركها بيد الفرنج والتوجه إلى بلاد اليمن وكانت بيد ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف ولو ذهب إلى اليمن لكان كارثة كبرى ربما غيرت الموازين فى مصر لمدة فثبته الملك المعظم وشجعه.
وكتب الملك الكامل إلى أخيه الأشرف موسى يستحثه على سرعة الحضور، وكتب إلى إخوانه يستعجلهم ويقول: “الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر”، وظلت كتب الملك الكامل متواصلة فى طلب النجدة لمساعدته على مقاومة الصليبيين المحاصرين لدمياط.
وفى أثناء الحصار، قبل سقوط المدينة، كان السلطان الكامل قد يئس من إمكانية صمود دمياط، ويبدو أن نفاد الصبر صفة ملازمة له، كما أنه غير مهتم بالمقدسات، ويستطيع التنازل عن أى شيء بسهولة ويُسرٍ فى سبيل أمانه الشخصى وأمان ملكه، فلم يكن الكامل مثل أعمامه الأبطال صلاح الدين وغيره، فلقد كان يميل للمهادنة والدعة والمسالمة، يكره القتال، شديد الذعر فى ميادين القتال .
فأرسل السلطان الكامل فى نهاية شهر أكتوبر يقترح على الصليبيين الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس، وأن يمتلكوا مدينة بيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين، على أن يدفع المسلمون جزية عن الحصون التى تبقى بأيديهم، وأن تستمر الهدنة بينهما لمدة ثلاثين سنة، وهكذا قرر الكامل أن يشترى السلام بالتنازل عن كل ما فتحه صلاح الدين بدماء الشهداء وجهاد السنين.
ورغم غرابة العرض الذى قدمه الكامل ومهانته -والذى يقدم للصليبيين ما لم يحلموا به، ويسلم لهم بيت المقدس على طبق من ذهب- لم يوافقوا على العرض، وفوَّتوا على أنفسهم فرصة كبيرة، إذ كانوا يريدون دمياط مركزا تجاريا لهم.
وشدَّد الصليبيون الحصار حول دمياط حتى بدأت حاميتها فى الانهيار، ثم سقطت مدينة دمياط بأيدى الصليبيين فى (25 من شعبان 616هـ/ 5 من نوفمبر 1219م)، بعد حصار دام تسعة أشهر ودخلها الصليبيون بعد يومين، كان أهل دمياط قد طلبوا من الفرنج الأمان وأن يخرجوا منها بأهلها وأموالهم فى القَساقِسَة وحلفوا لهم على ذلك، ففتحوا لهم الأبواب فدخلوا وغدروا بأهلها، ووضعوا فيهم السيف.
جمَّد الصليبيون نشاطهم فى دمياط على مدى ثمانية عشر شهرًا كاملة، وقد نشب الخلاف بين القواد الصليبيين بحيث مضى عام ونصف وهم غير قادرين على القيام بأية عمليات عسكرية حاسمة، وانتهى الخلاف بأن خرج القائد العسكرى “حنا برين” من دمياط عائدًا إلى بلاده مغاضبًا، وأصبح الأحمق بلاجيوس المندوب البابوى القائد الوحيد للحملة.
خلال هذه الفترة استقرت الأمور فى البيت الأيوبى واتفق الإخوة (الكامل والمعظم والأشرف) على مواجهة الصليبيين، وقد عسكر السلطان الكامل عند مدينة المنصورة فى مكان حصين شيَّده الكامل فى فترة الهدوء الصليبى، ودعا الناس إلى التطوع لصد الصليبيين عن مصر وشن المسلمون هجمات متتالية على المعسكر الصليبى وأسروا سبع سفن صليبية كبيرة والكثير من الجنود.
وتضعضع موقف الصليبيين، ولكن وصول قوات صليبية جديدة من ألمانيا وعكا شجع الكاردنيال الأحمق بلاجيوس على تنفيذ خطته للزحف نحو القاهرة بعد أن تأخرت كثيرًا، وتقدمت هذه القوات جنوباً للتوغل فى ديار مصر، فوصلت إلى فارسكور فى 25 جمادى الأولى 618هـ/17 يوليو 1221م.
ولكنه اختار الوقت غير المناسب، فهذا هو وقت فيضان النيل السنوى الذى يشتد فى شهر أغسطس، وعبرت قوات الجيش المصرى لكى تحاصر الصليبيين قرب المنزلة، ثم بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور فأغرقت كل الطرق أمام الجيش الصليبي، ووجد الصليبيون أنفسهم والماء قد أغرق أكثر الأرض التى هم عليها، ووجدوا أنفسهم محاصرين بالجيش المصرى جنوبًا والجيش الشامى من ناحية الشمال، وهم قد تركوا معسكرهم الحصين بدمياط عندما خرجوا للقاهرة بأمر الأحمق بلاجيوس.
وأصبح وضع الصليبيين شديد التأزم، وعلى صفحة النهر كانت سفن البحرية المصرية تستولى على عدد من سفن العدو ومعداته، وتقتل وتأسر بحَّارته. وهكذا غرقت أحلام الصليبيين بالاستيلاء على مصر فى أوحال الدلتا، وتحدد مصير الحملة الخامسة بشكل نهائي.
وألقى الله تعالى الرعب فى قلوب الصليبيين وركبتهم الذلة والصغار، واضطر المغرور بلاجيوس إلى طلب الصلح والهدنة، على أن يخرجوا من دمياط بغير عوض.
واختلف قادة معسكر المسلمين حول طلب الهدنة، ففى حين وافق عليها الكامل، رأى إخوته وآخرون انتهاز الفرصة والقضاء على الصليبيين، ولكن السلطان الكامل وافق على العرض، وتسلم دمياط منهم، فأجيبوا إلى ما طلبوا على أن يأخذ منهم السلطان الملك الكامل ملوكهم رهائن إلى أن يسلموا دمياط (عشرون ملكا منهم ملك عكا)، وطلبوا هم أن يأخذوا ولد السلطان وجماعة من خواصه رهائن إلى أن يرجع ملوكهم إليهم (ومنهم الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان عمره يؤمئذ خمس عشرة سنة).
وفى التاسع عشر من شهر رجب سنة ٦١٨هـ/ سبتمبر ١٢٢١م دخلت القوات المصرية دمياط التى كان الصليبيون قد حصَّنوها جيدًا، “وكان يوم تسليمها يوماً مشهوداً عاد به الدين الإسلامى جديداً بعد أن كانت قد ساءت به الظنون، وخيف على الديار المصرية والشامية من الفرنج خوفاً شديداً”.
وهكذا كانت الحملة الصليبية الخامسة -كما يقول الدكتور قاسم عبده قاسم- ضد دمياط آخر محاولات البابوية لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط ولحسابها منفردة.