الأدب
هل ملك “النمرود” الدنيا وحكم 400 سنة؟.. ما يقوله التراث الإسلامى
تنشغل كتب التراث بالحديث عن الصالحين كما تنشغل أيضا بالحديث عن المفسدين، ومنهم “النمرود” الذى عاش فى زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، فما الذى يقوله التراث الإسلامى عن هذا الملك؟
يقول كتاب البداية والنهاية تحت عنوان “ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية”:
قال الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّى الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” [البقرة: 258] .
يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد، الذى ادّعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد.
وقال غيره: نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران: النمرود وبختنصر، وذكروا أن نمرود هذا استمر فى ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغا وبغى، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمله الجهل والضلال وطول الآمال، على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيم الخليل فى ذلك، وادّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: ربى الذى يحى ويميت، قال: أنا أحى وأميت.
قال قتادة، والسدى، ومحمد بن إسحاق: يعنى أنه إذا أُتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر.
وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجى عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع فى الحقيقة.
فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيونات وموتها، هذا دليل على وجود فاعل ذلك الذى لا بد من استنادها إلى وجوده، ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولا بدّ من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب، والرياح، والسحاب، والمطر، وخلق هذه الحيونات التى توجد مشاهدة ثم إماتتها. ولهذا { قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّى الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ }.
فقول هذا الملك الجاهل: أنا أحى وأميت، إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدى ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئًا يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس، ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلًا آخر بين وجود الصانع، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة.
“قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ” أي: هذه الشمس مسخرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرّها وقاهرها، وهو الله الذى لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذى تحى وتميت، فات بهذه الشمس من المغرب، فإن الذى يحى ويميت هو الذى يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت.
وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة، أو تنصر منها، فبين ضلاله، وجهله، وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه، وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليل به، بل انقطع وسكت، ولهذا قال: “فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.
وقد ذكر السدى أن هذه المناظرة، كانت بين إبراهيم وبين النمرود، يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ، فكانت بينهما هذه المناظرة.
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم فى جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شىء من الطعام.
فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب، فملأ منه عدليه، وقال: أشغل أهلى إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء، فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين، فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا، فعملت منه طعامًا.
فلما استيقظ إبراهيم وجد الذى قد أصلحوه، فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذى جئت به، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل.
قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا، يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه. ثم دعاه الثانية فأبى عليه. ثم الثالثة فأبى عليه. وقال:
اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه، وجنوده، وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابًا من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم، وتركتهم عظامًا بادية.
ودخلت واحدة منها فى منخر الملك، فمكثت فى منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمزارب فى هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها.