الأدب

اقرأ مع الإمام محمد عبده.. الإسلام بين العلم والمدنية: ماذا أصاب العقل العربى؟

نعرف جميعا الإمام محمد عبده، فهو داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحى ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذى أصاب العقل العربى، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبى ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير فى الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.
 
وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة 1849 م فى قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركمانى الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدى بطنطا الذى تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية.
 
الإمام محمد عبده

شارك محمد عبده فى ثورة أحمد عرابى ضد الاحتلال الإنجليزى عام 1882م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِى إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغانى إلى باريس سنة 1884م، وأسَّس معه جريدة “العروة الوثقى” إلا أنها لم تستمر بالصدور، حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام1889 م، بعد إصدار الخديوى توفيق عفوًا عنه، وبعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتى، ليكون بذلك أول مفتى مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر.

ومن كتبه المعروفة “الإسلام بين العلم والمدينة”:  
 

وقد كتب محمد عبده هذا الكتاب رداً على كتابات وزير خارجية فرنسا هانوتو و شبهاته حول الإسلام، كتب هذا الكتاب سنة 1320 هجرى (1901 م) وهو يتحدث عما يعانيه المسلمون والإسلام من جهل وفتور وضعف همة وتبعية وعن الشبهات والخرافات والأكاذيب التى تنسب إلى الإسلام وتحوم من حوله.

بعد الرد على هانوتو، قام محمد عبده، من خلال هذه الصفحات بإعادة تعريف أصول الإسلام، و تحدث كثيراً عن شموليته كما أبرز الفرق بينه وبين الديانة المسيحية من المنظورين العقائدى والتاريخى ، وبالتالى قدم الإسلام على أنه دين مدنى ولا حاجة للمسلمين لأن يفعلو كما فعل الغرب أى فصل الدين عن دنياهم بل هم فى حاجة اكيدة إلى مراجعة أنفسهم والإلتفاف حول أصول دينهم.

 

أبرز الكتاب كذلك أهمية العلم والعلوم التجريبية والحياتية فى الاسلام وكيف لعب العلم دورا هاما فى الإرتقاء بالأمة الإسلامية إلى أعلى مرتبة. كما تحدث محمد عبده عن كيفية تعامل الإسلام مع مخالفيه ومع مختلف الملل والنحل مبرزا سماحة الإسلام و سعت صدره.

ويقول الإمام محمد عبده فى كتاب “الإسلام بين العلم والمدنية”:
 

خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهية، وبيد وحضارة صنيعة أعماله، وأقواته من معالجة الأرض بالزراعة، أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، وأكتانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتغنمه فيه من دواعى ترفه ونعيمه، إنما هى صور أعماله ومجالى أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان، وبسط كفيه للطبيعة، ليستجديها نفسا من حياة لشحت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو فى صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل كيف يعمل وليقتدر أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه، فهو فى جميع شئونه الحيوية عالم صناعى كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان فى مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.

الاسلام
 
دعه فى هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية، من الإدراك والتعقل والإخلاص والملكات والانفعالات الروحية، تجده فيها أيضا عالما صناعيا، شجاعته وجبنته، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشابهها من الكمالات والنقائص جميعا تابع لما يصادفه فى تربيته الأولى وما يودع فى نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم مرامى أفكاره ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية، أو ركونه إلى البحث فى الخوض الطبيعية وعنايته باكتشافه الحقيقة فى كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأى فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هى ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون، أما هواء المولد والمربى ونوع المزاج وشلل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشى الطبيعية فلا أثر لها فى الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون فى الاستعداد والقابلية، على ضعف فى ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع فى النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به وكأن لم يكن أودع فى الطبع. نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان فى عقله وصفات روحه عالم صناعي.
 
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء، ولكن هل تذكر، مع هذا، إن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وإن الروح هى السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير لأنه مما لا يغرب عن الأذهان، إنما قبل الدخول على موضوعنا أقول كلمة حق فى الدين، ولا أظن منكرا يجحدها.
 
إن الدين وضع إلهى ومعلمه والداعى إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين والمنذرين فهو منسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب ويرسخ فى الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات وتتمرن الأبدان على ما نشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان فى نشأته لوح صقيل وأول ما يخط فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ حتى الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح فى البشرة بعد الاندمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *