الأدب
هل سمعت عن “حديث الفتون”؟ .. اعرف ما يقوله التراث الإسلامى
كان القدماء، يهتمون بالفهم ويبحثون عن المعانى الكامنة خلف الآيات القرآنية، ومن ذلك المعروف فى التراث الإسلامى بـ حديث الفتون المتعلق بسيدنا موسى عليه السلام.. فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب “البداية والنهاية” تحت عنوان “حديث الفتون”:
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبى أيوب، أخبرنى سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: “وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا” فسألته عن الفتون ما هو؟
فقال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثًا طويلًا، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدنى من حديث الفتون، فقال:
تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل فى ذريته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إن بنى إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب.
فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم.
فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالًا معهم الشفار يطوفون فى بنى إسرائيل فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك.
فلما رأوا أن الكبار من بنى إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بنى إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذى كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم.
فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون فى العام الذى لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام فوقع فى قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون – يا ابن جبير – ما دخل عليه فى بطن أمه مما يراد به.
فأوحى الله إليها أن لا تخافى ولا تحزنى، إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله فى تابوت، وتلقيه فى اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها، أتاها الشيطان فقالت فى نفسها: ما فعلت بابنى لو ذبح عندى، فواريته وكفنته، كان أحب إلى من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جوارى امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن فى هذا مالًا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئًا، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلامًا، فألقى عليه منها محبة، لم تلق منها على أحد قط.
“وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا” من ذكر كل شىء، إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون – يا ابن جبير – فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد فى بنى إسرائيل، حتى آتى فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه منى كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم.
فأتت فرعون فقالت: “قُرَّةُ عَيْنٍ لِى وَلَكَ” فقال فرعون: يكون لك فأما لى فلا حاجة لى فيه، فقال رسول الله ﷺ:
“والذى يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كما أقرت امرأته، لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك”.
فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئرًا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه، لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرًا تأخذه منها فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والهًا، فقالت لأخته: قصى أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحى ابنى أم قد أكلته الدواب؟
ونسيت ما كان الله وعدها فيه. “فَبَصُرَتْ بِهِ” أخته “عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى شىء بعيد، وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا “أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ” فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل تعرفينه حتى شكوا فى ذلك. وذلك من الفتون – يا ابن جبير -.
فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم فى صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته فى حجرها، نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه ريًا.
وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثى ترضعى ابنى هذا، فإنى لم أحب شيئًا حبه قط.
قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتى وولدى فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتى فيكون معى لا آلوه خيرًا، فعلت فإنى غير تاركة بيتى وولدى، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فتعاسرت، على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتًا حسنًا وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو إسرائيل وهم فى ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم، ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيرينى ابني، فوعدتها يومًا تزيرها إياه فيه.
وقالت امرأة فرعون لخازنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابنى اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينًا يحصى كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا، والكرامة، والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون. فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه.
ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه، جعله فى حجره، فتناول موسى لحية فرعون، فمدها إلى الأرض.
فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، أنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون -يا ابن جبير – بعد كل بلاء ابتلى به، وأريد به.
فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون.
فقالت: ما بدا لك فى هذا الغلام الذى وهبته لي؟
فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعنى ويعلونى.
فقالت: اجعل بينى وبينك أمرًا تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين، عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل.
فقرب إليه فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى، فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به، وكان الله بالغًا فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بنى إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع.