كانت قصة سيدنا موسى عليه السلام، عامرة بالأحداث والحكايات، خاصة أن بنى إسرائيل لم يتركوه فى حاله، بل كانوا دائما ما يثيرون غضبه بأفعالهم وتصرفاتهم، وفى النهاية مات نبى الله.. فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية تحت عنوان “ذكر وفاته عليه السلام”:
قال البخارى فى (صحيحه) وفاة موسى عليه السلام: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبى هريرة قال:
أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل، فقال: أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أى رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن.
قال فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميه بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله ﷺ: “فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر”.
قال: وأنبأنا معمر، عن همام، عن أبى هريرة عن النبى ﷺ نحوه.
وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به.
ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة مرفوعًا وسيأتى.
موسى لم يتعرف على ملاك الموت
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعنى – سليم بن جبير- عن أبى هريرة، قال الإمام أحمد: لم يرفعه.
قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها.
فرجع الملك إلى الله فقال: إنك بعثتنى إلى عبد لك لا يريد الموت.
قال: وقد فقأ عينى.
قال: فرد الله عينه.
وقال: ارجع إلى عبدى، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة.
قال: ثم مه؟
قال: ثم الموت.
قال: فالآن يا رب من قريب.
تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن حبان فى (صحيحه)، من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبى هريرة قال معمر: وأخبرنى من سمع الحسن، عن رسول الله فذكره، ثم استشكله ابن حبان، وأجاب عنه بما حاصله، أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل فى صورة أعرابى، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط فى صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولًا، وكذلك موسى لعله لم يعرفه.
لذلك لطمه ففقأ عينه، لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا فى جواز فقء عين من نظر إليك فى دارك بغير إذن.
ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
“جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه.
قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه”، وذكر تمام الحديث.
كما أشار إليه البخارى، ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له: أجب ربك، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله: أجب ربك بلطمه، ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه فى تلك الصورة.
ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذ لم يتحقق فى الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أمورًا كثيرة، كان يحب وقوعها فى حياته من خروجه من التيه، ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق فى قدرة الله أنه عليه السلام يموت فى التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام، هو الذى خرج بهم من التيه، ودخل بهم الأرض المقدسة، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين، ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: رب أدننى إلى الأرض المقدسة رمية حجر، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه.
ولما حانت وفاته، عليه السلام، أحب أن يتقرب إلى الأرض التى هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر، ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر:
“فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر “.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، وسليمان التيمى، عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ قال: “لما أسرى بى مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره، عند الكثيب الأحمر”.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
موت سيدنا هارون
وقال السدى: عن أبى مالك، وأبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إنى متوف هارون فائت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة، لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبنى، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال: يا موسى إنى أحب أن أنام على هذا السرير.
قال له موسى: فنم عليه.
قال: إنى أخاف أن يأتى رب هذا البيت فيغضب على.
قال له: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم.
قال يا موسى: نم معى، فإن جاء رب هذا البيت غضب على وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال يا موسى: خدعتنى، فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتل هارون، وحسده حب بنى إسرائيل له.
وكان هارون أكف عنهم، وألين لهم من موسى، وكان فى موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم كان أخى أفترونى أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض.
بنو إسرائيل يتهمون يوشع بن نون بقتل موسى
ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشى ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبى الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، وترك القميص فى يدى يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبى الله، فقال: لا والله ما قتلته ولكنه استل منى، فلم يصدقوه وأرادوا قتله.
قال: فإذا لم تصدقونى فأخرونى ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه فى المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح، وفى بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم.
وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بنى إسرائيل بالدخول عليهم.
الملائكة يحفرون قبرا
وذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبرًا، فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر، فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه، وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة.
رواية أخرى للحديث
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة، عن النبى ﷺ – قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبى ﷺ – قال:
“كان ملك الموت يأتى الناس عيانًا.
قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربه.
فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه.
وقال يونس: لشققت عليه.
قال له: اذهب إلى عبدى فقل له: فليضع يده على جلد، أو مَسْك ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة.
فأتاه فقال له، فقال: ما بعد هذا؟
قال: الموت.
قال: فالآن.
قال: فشمه شمة فقبض روحه”.
قال يونس: فرد الله عليه عينه، وكان يأتى الناس خفية.
وكذا رواه ابن جرير، عن أبى كريب، عن مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة به. فرفعه أيضًا.