آراء وتحليلات

من أرشيف المقاومة الوطنية على أرض سيناء حلقة (30) زيارة الى سجن غزة المركزى

تمر السنوات سريعا وتبقى ذكريات البطولة والصمود وتلك الئكريات القابعة فى الوجدان رصيد لنا كى نتزود منه ونسترجع رصيد العبر والتجارب والخبرات المتراكمة ، قد يكون الحدث اختلف شكلا وموضوعا ، فلا الزمان هوالزمان ، ولا الاشخاص هم الاشخاص ، ولكن يبق المكان والرمز والعبرة والتجربة الإنسانية تتواصل وتنقل إلى الأجيال ، نستخلص منها الخبرة التى تعيننا على إدارة كثير من المواقف والأحداث التى قد نقف أمامها كثيرا وتتطلب إدارتها من خلال الرؤية والخبرة معا ، تلك هى مسيرة الحياة والتى يمكن ان تكون مرجع نستند اليه ومفاتيح لنا ولابنائنا من بعدنا ، ونبراسا يضئ لنا طريق المستقبل ، فما بالكم لو كان الحديث عن تاريخ مفعم بالبطولة والوطنية والصمود، فبالتأكيد هنا يستحب الحديث
وعندما يكون الحديث عن سنوات المعاناة خلال الفترة من ( 1967م وحتى 1982م ) كما اُسميها أنا أوكما أطلق عليها والدى أحد أبطال المقاومة الوطنية في سيناء “السنوات العجاف” ، لايفوتنى أن اسجل في ذاكرة سيناء عن ذلك الدور الوطنى للأباء ولنا نحن اسر وابناء هؤلاء الأبطال وذلك الدور الذى كان واحدا من أدوارنا والتى تحدينا بها سلطات الإحتلال وصنعنا من ضعفنا قوة ومن المستحيل تحدى ومن المعاناة صمودا ،،،
ودعونى اذكر لكم مشهد من فصول ملحمة الصمود والتحدى برغم كل أدوات المستعمر الغاصب المحتل لارضنا وجبروته وسطوته :
فلا يمكن أن أنسى ذلك المشهد ، مشهد الرحلة المريرة لزيارة والدى ورفاقه فى سجن غزة المركزى وعندما ايقظتنى امى قبل صلاة الفجر لنستعد لاطول رحلة فى نظرى واطول يوم فى التاريخ بالنسبة لى ،
فقد كانت العطلة الصيفية قد قاربت على الإنتهاء بعد اول سنة من التحاقى بدراستى الجامعية والاستعداد للرحيل الاجبارى عن ارض الوطن حيث كنا نتعامل بتصاريح للذهاب وكانت فترة قضاء الاجازة بين الاسرة مقرونة بتوقيات وتواريخ محددة وكنا قد طلبنا زيارة خاصة للوالد عن طريقة هيئة الصليب الأحمر ، والتي لاتأتى عليها الموافقة على الزيارة الا كل 3اشهر، وقد تطول المدة لاكثر ذلك ، فقد انتظرنا كثيرا حتى أتت الموافقة واذنت لنا سلطات الاحتلال بزيارة والدى الذى كانت معتقلا في سجن غزة المركزى بتهمة التعاون مع السلطات المصرية ومقابلة الرئيس السادات ، اثناء زيارة مع وفد سيناء عن طريق الصليب الأحمر لتقديم التأييد له والتهنئة بإنتصار اكتوبر العظيم وإيصال صوت ابناء سيناء خلف خطوط العدو بدعم خطوات الرئيس السادات نحو عملية إقرار السلام بالمنطقة ،والتأكيد له بأن سيناء ومصريتها وترابها الوطنى امانة وعهد فى رقاب ابنائها الذين اختاروا الصمود والبقاء على الارض للحفاظ عليها وعلى كل ذرة تراب من ترابها المقدس ،
انه فعلا لشئ مضحك ومشرف في نفس الوقت أن يتم إتهامك بالوطنية وتسجن في سجون سلطات الاحتلال تحت هذا البند ،
لم انم ليلتها وبت اترقب فجر اليوم الموعود الذى كان فى صيف اغسطس 1976 قمت قبل الفجر انا ووالدتى وايقظنا جدتى واخوتى الصغار الذين سمح لهم بالزيارة معنا ، وصلينا الفجر وتوجهنا الى موقف الاتوبيس الكائن في موقف وسط مدينة العريش حيث استقلينا الحافلة المتجة الى مدينة غزة ، كان معنا تصريح نحن وعدد 3اسر من عائلات الاسرى للزيارة ، فكان المسموح لنا نحن وهم فقط بزيارة والدى ورفاقه الاسرى فى سجون الاحتلال ، ومع اشراقة شمس ذلك اليوم المحدد ، انطلقت الحافلة متجها شرقا الى مدينة غزة حيث وجهتنا “سجن غزة المركزى ” إستغرقت الرحلة ثلاثة ساعات وصلنا التاسعة صباحا ثم اتجهنا الى مقر السجن مشيا على الاقدام لمدة ساعة حتى وصلنا الى ذلك الشارع المخيف وابوابه الحديدية المجنزرة الكائن فى أطراف المدينة ، لم اكن سعيدة بوجود اخوتى الصغار معنا لاننى شعرت بمعاناتهم ولكنى عرفت من والدتى انها تريد ان يراهم الوالد حتى يطمئن وتخفف من وطأة المعاناة التي يعيشها في غياهب سجون الاحتلال
واصطف اهالى الأسرى طابورا طويلا امام الشارع المقابل للبوابة وقفنا مدة ثلاثة ساعات حتى تصبب العرق منا وبكى الأطفال من شدة حرارة شمس ذلك اليوم ، ثم دوت الابواق معلنة فتح تلك البوابة الضيقة والتى يمر بها الافراد بالدور حيث ينادى بالاسماء فرادى حتى الأطفال ثم يتم الدخول للتفتيش والوقوف طابور اخر للإذن بالدخول الى صالة الزيارة والتي كانت مصطفة بالشبابيك التي يطل منه وجه الاسرى المعتقلين ليرورا اسرهم وينعموا برؤيتة امهاتهم وزوجاتهم وابنائهم ، لمدة لاتزيد عن 15دقيقة ، بعدها تغلق الأبواب وتتعالى الاصوات بالنحيب والبكاء ، ياله من مشهد عظيم يهز المشاعر وترتجف فيه الابدان وتغيب الوجوه ، وتغيب شمس ذلك اليوم وينتصف الليل ، حين نصل الى مدينتنا ونلوذ فى بيوتنا نتجرع مرارة زيارة الاحبة وحرمان الرؤية من أصواتهم الدافئة ، وعيونهم الشاخصة وعزائمهم القوية الصلبة وإيمانهم العظيم بأن النصر أت لامحالة وأن الليل الطويل سينجلى بإشراقة شمس لن تغيب،
فى الحقيقة وبرغم الم ذلك المشهد وشفقتى على امى وجدتى المسنة واخوتى الصغار ، لكنى كنت سعيدة اننى التقيت والدى ورفاقه وبرغم القضيان والحواجز استمديت منهم روح المقاتل وعزيمته وصبر المحارب وحنكتة ، وكنت سعيدة اننى قرأت رموز رساله هامة يجب أن تصل للقاهرة تعلمت رموزها من والدى قبل سنوات واليوم بت استطيع نقلها وحمل امانتها
برغم انف سجون الاحتلال !!!
شددت على يد والدى فكان الوداع بالمعنى الذى يترجم طمأنته بأن الرسالة ستصل كما اراد وستكون الإستجابة فورية ، وبالفعل قد كان ،
وفى اليوم الثانى كانت رحلة العودة للقاهرة فى نفس الميعاد الذى حًدد لى ولزملائى فى رحلات افواج طلاب سيناءالذين يدرسون بالجامعات المصرية التى كانت تنظمها هيئة الصليب الاحمر الدولى للطلبة فى الارض المحتلة والتى كانت تستغرق رحلتها وقتا مقداره ثلاثة ايام متوالية ،،،
وحتى لأطيل عليكم عبء تجسيد الواقع وتصوره ومعايشته بالامه ومرارته !!!
أعدكم أحبتى القرأء بأننى سوف أبوح لكم عن فحوى الرسالة التى نقلتها للقاهرة وأزف إليكم نتاجها فى مقالتى القادمة ، فمازال للحديث بقية ،،،
خالص تحياتى / سهام عزالدين جبريل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *