الأدب
اقرأ مع عباس العقاد.. “الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام” ماركس شخص متناقض
نواصل قراءة مشروع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) والذى قدم عددا من الأفكار المهمة التى استنبطها من الأفكار الإسلامية والعربية والمصرية، واليوم نتوقف عند كتاب ” الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام”.
ويقول الكتاب:
نشر “كارل ماركس” مذهبه الفلسفى الذى سماه بالتفسير المادى للتاريخ، وبنى عليه مذهبه الاقتصادى الذى سماه “الاشتراكية العلمية” تمييزًا له من المذاهب الاشتراكية السابقة، وهى عنده اشتراكيات أحلام أو اشتراكيات “طوبى” لا تقوم على غير الأمل والخيال.
ولم تكن هذه “الاشتراكية العلمية” أقل نبوءات من المذاهب التى كان يُنعى عليها أنها تجافى العلم وتنتكب طريق الواقع؛ لأن الاشتراكية العلمية التى آمن بها “كارل ماركس” قد تطوحت فى نبوءات لا تنتهى إلى آخر الزمان، وادعت لنفسها أنها تفسر أسرار الكون وأسرار المادة فى جميع ظواهرها، وأنها ترسم للتاريخ المقبل خُطاه التى لا يحيد عنها ولا يزال مطردًا عليها إلى غير نهاية، وهى نهاية أبعد فى مجاهل الغيب من النهايات التى قدرتها الأديان الغابرة ببضعة آلاف من السنين؛ لأنها توغل فى الآباد المقبلة إلى ملايين السنين، وتدعى باسم العلم — لا باسم الخرافة — أنَّ الغيب المجهول لن يأتى بشيء فى حياة الإنسان غير الذى رسمه “كارل ماركس” وفرغ منه قبل منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يتقدم العلم نفسه وراء خطواته الأولى فى العصر الحديث.
ولم تكن المسألة عند “كارل ماركس” مسألة تقديرات نظرية لا يترتب عليها شيء من العواقب غير تبديل نظرية بأخرى أو تنقيحها برأى يخالفها، ولكنها كانت مسألة أرواح ودماء وشعوب وأنظمة واجتراء على الماضى كله بالهدم والانتفاض، إيمانًا بتلك النظرية التى لا تقبل الشك، ولا يستكثر على تحقيقها إهدار الدماء كالأنهار ولا تقويض المعالم الباقية كأنها من جهود عدو للإنسان، وليست من جهود الإنسان فى جميع الأزمان.
وكان ينبغى للإيمان بتلك النظرية أن تقوم على أُسس واضحة مقررة ثبتت فى عقل صاحبها وفى سائر العقول ثبوتًا لا شبهة عليه ولا مَثْنَوِيِّةَ فيه، ولكنها فى الواقع لم تثبت فى ذهنه بتفصيلاتها ولم يفرغ من دراستها فى حينها، وأرجأ التوسع فى شرحها إلى الجزء الأخير من كتابه، ثم مات قبل أن يفرغ من ذلك الكتاب.
وعد “كارل ماركس” بإشباع القول فى مسألة الطبقات، ومسألة القيمة “الفائضة” من كسب العمل، ومسألة التطور بين عصر الانتقال، وعصر المجتمع ذى الطبقة الواحدة، وكل هذه المسائل من صميم القواعد التى يقوم عليها مذهبه العلمى كما يسميه، ولكنه مات ولما يبين للناس حقيقة الطبقة الاجتماعية، ولا معنى القيمة الفائضة، ولا نظام الحكم بعد انتقاله إلى أيدى الطبقة العاملة، ولا الوسيلة التى يتم بها هذا الانتقال.
وعلى ضخامة الدعوى التى يدعيها “كارل ماركس” فى نبوءاته الأبدية، تكشفت الحقائق فى حياته، فإذا هى تنقض تلك النبوءات، وتدل على نقيض البقية الباقية منها، فلم يلتفت “كارل ماركس” إلى هذه النقائض البينة، أو التفت إليها ليقذفها ببعض اللعنات — غير العلمية — التى تعود أن يقذف بها كل ما يخالف تقديره وكل من يخالفه، ومنها الرجعية والعامية والعقلية السطحية وخدمة رأس المال وخداع السواد والتعلق بالأوهام، وأشباه هذه المثالب والوصمات.