الأدب
وباء التعرق هل سمعت عنه؟.. أصاب الاثرياء قديما واختفى سريعا
من وقت إلى آخر تظهر بعض الأمراض التى تصيب الإنسان، وتصيب البشرية بالرعب لكن عدد ضحاياها، أو طول وجودها وتأثيرها، تبدو تافهة ومجهولة بالنسبة إلى الأوبئة والطواعين التى ضربت العالم فى أوقات مقاربة لها، وتسببت فى حصد أرواح ملايين البشر.
لكن يبدو أن الأوبئة التافهة هذه، قادرة على صناعة الذعر، وبث الرعب داخل نفوس البشر، تعقبها مضاعفات دولية، إذا كانت موجة التفشى لمرض مجهول، ومن ضمن تلك الأوبئة التى أصابت البشر وسببتله حالة من الرعب، وانتهت سريعا، و لم يعرف أصلها حتى الآن، ولاتزال غامضة، وباء التعرق القديم، الذى ظهر فى بريطانيا فى القرن الخامس عشر.
بحسب كتاب “عودة الموت الأسود: أخطر قاتل على مر العصور” لسوزان سكوت وكريستوفر دنكان، فى خريف عام 1485 ظهر مرض غريب فى إنجلترا، قيل إنه وصل إلى هناك عن طريق المرتزقة الذين كانوا عائدين لتوهم من فرنسا، استمر المرض طوال الخريف وأوائل الشتاء، وصار معروفا فى أوروبا باسم “التعرق الإنجليزى” بسبب شدة قابلية الأفراد للإصابة به فى إنجلترا.
عاود مرض التعرق الغامض الظهور أربع مرات أخرى — فى عام 1508 وفى1517، وفى 1528، وفى 1551 — واختفى بعدها من إنجلترا إلى الأبد، معظم الروايات الباقية عن موجات التفشى الوبائية هذه قاصرة على لندن، باستثناء الوباء الأخير، الذى بدأ فى بلدة شروزبرى بمقاطعة شروبشير، ثم انتقل إلى لندن حيث “أسفر عن معدل وفيات هائل” إلا أنه بتحليل سجلات 680 أَبرشية تبين أن هذا المرض كان فى حقيقة الأمر مرضا ريفيا فى الأساس، قادرا على الانتقال السريع جدا عبر الطرق الرئيسية، وكان يُودِى بحياة 30% من سكان البلدات التى كان يضربها.
على ما يبدو كان التعرق يصيب الأثرياء على وجه الخصوص؛ فقد أُصيب به الكاردينال وولسى ثلاث مرات عام 1517، لكنه نجا، وسقط كثيرون فى بلاط هنرى الثامن مرضى بالتعرق؛ فانتاب الملكَ خوف قهرى من المرض لدرجة أنه كان يغير مقر إقامته كل يومين فى محاولة لتحاشى الاتصال بأولئك الذين أُصيبوا فى بلاطه.
كان هجوم مرض التعرق يبدأ دونَ سابق إنذار، وعادة ما كان ينتشر فى الليل أو الصباح الباكر، وكان المصاب به يشعر ببُرودة ورجفة يعقبها حمى التهابية حادة مع تصبب عرق غزير، وغالبا ما كان يصاحبه طفح جلدي، كما كان يعانى من آلام مفاجئة فى الرأس وألم العضلات وصعوبة فى التنفس، لم يكن يستمر أكثر من 24 ساعة، وإذا حالف الحظ الضحية، فإن العرق كان يقل ويحل محله التبول بغزارة، وتتماثل الضحية للشفاء التام خلال أُسبوع أو اثنين.
بخلاف هذا سرعان ما كان يعقب آلام الرأس الشديدة والتشنجات الدخول فى غيبوبة ثم الوفاة، لقى كثير من الضحايا حتفهم بعد بضع ساعات من ظهور الأعراض، مع أن معظم الضحايا كانوا يبقون على قيد الحياة لمدة 24 ساعة، لم يكن مرض التعرق يصيب الرضع أو الأطفال الصغار أو الطاعنين فى العمر، ولم يكن التعافى من المرض ليضمن اكتساب مناعة ضده.
فى عام 1528 كتب السفير الفرنسى لدى البلاط الإنجليزي: أصيبت خادمة من خادمات السيدة بولين يوم الثلاثاء بمرض التعرق؛ فغادر الملك فى عجالة شديدة وابتعد لمسافة اثنى عشر ميلا، هذا المرض هو أسهل مرض فى العالم يمكن أن يموت المرء منه؛ فالمرء يشكو آلاما خفيفة فى الرأس والقلب، وفجأة يبدأ فى التصبب عرقا، ولا داعى لإحضار الطبيب؛ لأنه إذا كشفت الغطاء عنك بأقل قدر ممكن، أو غطيت نفسك أكثر قليلا من اللازم، فستموت بلا معاناة، وصحيح أن مجرد إخراج يدك من تحت الفراش إبان الأربع والعشرين ساعة الأولى من شأنه أن يودى بحياتك.
كانت أوبئة مرض التعرق قصيرة المدة: “إذ كانت تهاجم جماعة بعينها ثم تختفي، وكان المرض يجتاح أَبرشية بأكملها فى غضون أيام قليلة جدا، على الأكثر أسبوعين”.