الأدب
اقرأ مع عباس العقاد.. “أبو نواس” ما يعرفه العامة عن الشاعر الشهير
نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 -1964) قراءة مشروعه الفكرى الذى يعد من أكثر المشاريع فى الثقافة العربية تأثيرًا، واليوم نتوقف مع كتابه “أبو نواس”.
يقول الكتاب تحت عنوان “أبو نواس عند العامة”:
اشتهر فى الأدب العربى عشرات من الشعراء والأدباء، يعرفهم قراء الأدب ورواته، ولا تصل أسماؤهم — فضلًا عن أخبارهم — إلى الأميين وأشباه الأميين من جهلاء العامة، ما عدا شاعرًا واحدًا اشتهر من بين هؤلاء الشعراء والأدباء فى بابه فسمع به الأميون وأشباه الأميين، واتخذوا من اسمه علمًا على كل من يشبهه فى صورته عندهم، وصحفوا ذلك الاسم تصحيفًا يدل على مصادره الأمية، فعرفوه باسم “أبى النواس” بتشديد الواو وزيادة الألف واللام للتعريف على الدوام.
ولم يكن شذوذ هذا الشاعر عن هذه القاعدة لسهولة شعره، فإن الأميين الذين يتناقلون أخباره ونوادره لا ينقلون بيتًا واحدًا من شعره، ولا يروونه مصحفًا أو بغير تصحيف، وإنما يعرفون الشاعر “شخصية” ذات أخبار، ولا يعرفونه قائلًا ينظم الأشعار.
ولم تكن هذه الشهرة أيضًا لقرب عهده وقصر الزمن بينه وبين رواته المتأخرين، فإن النواسى عاش فى القرن الثانى للهجرة، وهؤلاء الأميون الذين يتناقلون أخباره المزعومة قد يجهلون أسماء الشعراء والأدباء فى عصرهم، أو يجهلون على التحقيق أسماء الشعراء والأدباء بعد القرن الثانى للهجرة بلا استثناء، ما عدا هذا الاستثناء.
ولكن هذا الاستثناء لم يكن على أية حال مصادفة لغير سبب، كما سنرى فى موضع البيان عن أسباب هذه الشهرة عند نشأتها الأولى، ومتى وجدت الشهرة فهى قابلة بعد ذلك للإضافة والزيادة، ولو من غير القبيل الذى نشأت من أجله فى مرحلتها الأولى.
وإذا كان هذا شأن الأميين فى التحدث بأخبار الشاعر المجدود، فلا عجب أن يتحدث به أشباه الأميين وهم أقرب إلى الأدب المقروء فى الكتب، والقدرة على فهم القليل منه، إن فاتهم فهم أكثره وأصحه.
ونعنى بأشباه الأميين أولئك الذين يقرءون ولا يقدرون على تصحيح نسبة الكلام واستقصاء وجوه التصحيح، فإذا سمعوا كلامًا لشاعر مشهور غيره، جاز عندهم أن يكون لهذا أو لذلك، وإن كان الفارق بينهما واضحًا لنقاد الأدب ورواته المتثبتين.
هؤلاء القراء أشباه الأميين يعرفون النواسى كإخوانهم الأميين؛ أى يعرفونه لأنه شخصية ذات أخبار، وقلما يعنيهم منه ذلك الشعر الذى ينسبونه إليه سواء صحت نسبته إليه أو إلى غيره، أو كان مختلقًا ملفقًا لا تصح نسبته إلى أحد من الشعراء المشهورين.
والغالب على هذه الشخصية أنها شخصية النديم اللاهى — “الحاذق” — ونكاد نكتبها “الحدق” بالدال، وعلى غير صيغة اسم الفاعل؛ لأن “الحداقة” كما يفهمها العامة هى أم الصفات التى تتغلب على “النواسى” فى روايات أشباه الأميين، ومنها سرعة الجواب والفهم بالإشارة، أو الفهم الذى يوشك أن يكون اطلاعًا على الغيب، مع اللباقة فى اللعب بالكلام أو اللعب بالأفهام على حسب المقام، ولا سيما اللهو ونبذ الحياء والملام.
وليس أشهر من الأدب المنسوب إلى أبى نواس فى الكتب التى تروج بين أشباه الأميين، ومنها ألف ليلة، وأعلام الناس فيما جرى للبرامكة مع بنى العباس، وقليله يغنى عن الكثير.