الأدب
اقرأ مع عباس العقاد.. “ابن سينا” صورة الحياة فى زمن الفيلسوف
نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 -1964) التعرف على ملامح مشروعه الفكرى الذى تنوع بين الفكرى والفلسفى والتاريخى والأدبى واليوم نتوقف مع كتابه “ابن سينا”.
يقول الكتاب:
نشأ ابن سينا فى ظل الدولة السامانية بخراسان.
وكانت خراسان وأقاليم فارس جميعًا فى ذلك العصر مستقلة عن الخليفة العباسى ببغداد يحكمها الأمراء المتغلبون عليها ولا يدينون لخليفة بنى العباس بغير الخطبة باسمه على المنابر فى صلوات الجُمع والأعياد.
ولم تكن خطبتهم له عن إيمان بحقه فى ولاية الأمر لأنهم كانوا — أو كان أكثرهم على الأقل — يؤمنون بحق العلويين ويتشيعون لأئمتهم المستورين، وإنما يخطبون لخلفاء العباسيين لأنهم أضعف شأنًا من أن يجمعوا سلطان الحكم الفعلى إلى سلطان الخلافة الإسمية، بعد أن تفرد الأمراء بالحكم فى جميع الأقاليم.
ومن أمثلة ذلك أن أحمد بن بويه عاهد المستكفى على تقسيم الأمر بينهما، فيعترف للمستكفى بلقب الخلافة ويعترف المستكفى له بلقب السلطان. ثم استكثر الخلافة على المستكفى فهمَّ بانتزاعها من العباسيين وإسنادها إلى العلويين، فقال له بعض الدهاة من خاصة صحبه: «إنك مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ولكنك إذا أقمت علويًّا فى الخلافة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لاستحلوا دمك وقتلوك …”
ولما تولى الطاهريون أمر خراسان من قبل المأمون فى إبان مجد الدولة العباسية كانت مصالحهم مع العباسيين وقلوبهم مع العلويين، كما فعل سليمان بن عبد الله بن طاهر حين حارب الحسن بن زيد فى طبرستان، فانهزم اختيارًا ليحتسب دماء الفاطميين.
وقد نشأت الدولة السامانية فى ظل الدولة الطاهرية، لأن طاهر بن الحسين هو الذى ثبت نصر بن أحمد بن أسعد بن سامان على ولاية سمرقند، ثم عقد له المعتمد العباسى على ما وراء النهر، ابتدأت به الإمارة السامانية التى ولد ابن سينا فى ظلها بعد نيف ومائة سنة من نشأتها.
وقد كان الأمراء السامانيون يقاتلون العلويين فى طبرستان وما جاورها، كما كان يقاتلهم أبناء طاهر وأبناء بويه فى بعض المواقف السياسية، ولكنهم ومن عاصرهم من أمراء فارس كانوا يعلمون أن رعاياهم يدينون بالولاء للعلويين ويرحبون بالدعوة العلوية فى كل مكان، ولا سيما وراء النهر وخراسان، ولا تمنعهم كراهة الغلاة من الباطنية أن يصمدوا على ذلك الولاء.
ومتى ذكرت الدعوة العلوية فقد ذكرت معها مباحث النظر ومذاهب الفلسفة ومدارس الحكمة والتصوف وكل دراسة يستعان بها على إنكار الظاهر المكشوف وتعزيز الباطن المستور. إذ كان العلويون من أنصار التجديد لأنهم خصوم السلطان القائم والحالة الواقعة، وكانت الفلسفة بفروعها المختلفة قد امتزجت بالسياسة واشتبكت على الخصوص بمسألة الخلافة والملك والإمامة، فأصبح الإمام الحق شيئًا والسلطان الغاصب شيئًا آخر. وليس من محض المصادفات أن الفارابى كتب فيما بين القرن الثانى والقرن الثالث يصف الإمام الصالح على سنة الفلاسفة فيجعله من الأتقياء المعرضين عن المادة المقبلين على لذات الأرواح، ويقرن ذلك بما ينبغى له من قوة العارضة ونفاذ الفطنة ومضاء العزيمة ومناقب العدل والعفة والفضيلة. فإن الفارابى قد نشأ فيما وراء النهر حيث استفحلت الدعوة العلوية، وحضر الخلافة العباسية وهى شبح هزيل يؤذن بالزوال.
والذى أجمله الفارابى فى كلامه على فضلاء الأئمة قد فصلته رسائل إخوان الصفاء، ورجعت به إلى نواميس الطبيعة فى المعادن والحيوان والنبات.
والرسائل صريحة فى الدعوة إلى آل البيت حيث تقول: “اعلم يا أخى بأنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة فى فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبى لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة.”
فانتشار المباحث الفلسفية لا يستغرب على الخصوص فى عصر ابن سينا وفيما وراء النهر وخراسان. لأن الدعوة العلوية كانت على أقواها فى تلك الأطراف النائية، ولأن الفلسفة لذة عقلية فى كل مكان أو زمان. أما فى تلك الأطراف النائية فقد كانت فى ذلك الزمن مطلبًا يستمد القوة من قوة الأشواق العقلية وقوة المساعى السياسية وقوة الإيمان بالدين، وهى هناك على مقربة من الهند ومهد المانوية حيث آمن الناس قديمًا بحلول الروح الإلهى فى أجساد البشر وآمنوا بتناسخ الأرواح وقداسة النساك والزهاد، فلا يستغربون ما ينسب إلى الإمام دون ذلك من الصفات أو من الأسرار والكرامات.