الأدب
اقرأ مع عباس العقاد.. “عبقرية الصديق” تقدم مفتاح شخصية سيدنا أبى بكر
نواصل مع المفكر العربي الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) قراءة مشروعه الفكرى الذي حقق صدى كبيرا فى الأوساط الثقافية والدينية فى القرن العشرين ولا يزال، ويأتى على رأس هذه الكتب العبقريات، واليوم نتوقف مع “عبقرية الصديق”.
يقول الكتاب تحت عنوان “مفتاح شخصيته” فشخصية الصديق لها مفتاح قريب المتناول وهو هذا المفتاح، مفتاح الإعجاب بالبطولة.
وهذا الإعجاب بالبطولة هو الوَسْم الذي يتسم به كل عمل من أعماله وكل نية من نياته، وهو السر الذي نراه كامنًا في كل رأي يرتئيه وكل قرار حاسم يستقر عليه.
والإعجاب بالبطولة في التاريخ الإنساني شيء عظيم، ليس بعد البطولة منزلة يشرف بها الإنسان أشرف من منزلة الإعجاب بها والركون إليها، لأن الفضيلتين معًا لازمتان جنبًا إلى جنب في كل أمر جليل تم في تاريخ الإنسان، وكل طور من أطوار التقدم ارتقى إليه.
وليقل أصحاب التحليل العلمي ما يشاءون.
وليقل أصحاب القياس المنطقي ما يحبون.
فشاءوا أو لم يشاءوا، وأحبوا أو لم يحبوا، لقد تم بغير التحليل العلمي وبغير القياس المنطقي كثير من العظائم في تاريخ الإنسان، ولم يتم قط — ولن يتم فيما نرى — أمر عظيم واحد بغير البطولة وبغير الإعجاب بالأبطال.
لها برهانها من الواقع كبرهان الأقيسة المنطقية والتجارب العلمية. فالرجل الذي ينهض له البرهان النفساني على الثقة ببطل من الأبطال فيثق به ويعينه على عمله ليس بالرجل الذاهب على غير هدى أو الآخذ بغير دليل. كلا، فعمله ونتيجة عمله كلاهما برهان يغنيه عن مصنع التحليل، وعن قضايا المنطق، ويغني العالم كذلك عنهما إذا نظرنا إلى العمل ثم نظرنا إلى النتيجة، ونظرنا قبل هذا وبعد هذا إلى طبائع الإنسان.
……
وهو إعجابه بالبطولة التي تستحق الإعجاب؛ لأن الإعجاب طبقات تتفاوت، كما أن البطولة نفسها طبقات تتفاوت. وقد كان هو من طبقات هذا الإعجاب في أرفع مكان؛ لأنه لم يعجب ببطل تروعه منه سطوة العُتاة المتجبرين، ولم يعجب ببطل تروعه منه مظاهر الزخرف والخيلاء، ولم يعجب ببطل تروعه منه جلبة الصيت الفارغ والمواكب الجوفاء، ولم يعجب ببطل يزدهي بالوفر والثروة أو بالعُصْبة أولي القوة.
لا. لم يكن شيء من هذا هو الذي راعه من بطولة محمد عليه السلام؛ لأن محمدًا عليه السلام لم يكن ذا سطوة، بل كان عرضة للأذى من المسلطين عليه، ولم يكن من أصحاب الزخرف والخيلاء؛ بل كان أعداؤه هم أصحاب الزخرف والخيلاء. ولم يكن وراءه أحد يتبعه ولا معه مال يصل به من يصل إليه، بل كان وحيدًا يطرده الأكثرون، فقيرًا يعينه الموسرون، وأولهم أول صدِّيقيه والمقبلين عليه.
إنما البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرف منها؛ بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق، وبطولة الخير، بطولة الاستقامة، وهي بعد هذا، وفوق هذا، بطولة الفداء يقبل عليها من أقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء.
تلك هي بطولة محمد.
وذلك هو إعجاب الصديق. خير لبني آدم أن يبقى لهم هذا الإعجاب من أن يزول ويبقى بعده كل شيء، وأي شيء!