الأدب
اقرأ مع عباس العقاد.. “عبقرية محمد” كان النبى عطوفا ودودا
نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) قراءة مشروعه الفكرى الذى شكل جانبا كبيرا من ثقافة القرن العشرين فى العالمين العربى والإسلامى، وخير ما نختم به الحديث عن مشروع العقاد هو كتابه المهم “عبقرية محمد”.
يقول الكتاب تحت عنوان “عطوف ودود”:
إذا كان الرجل محبًّا للناس، أهلًا لحبهم إياه، فقد تمت له أداة الصداقة من طرفيها …
وإنما تتم له أداة الصداقة بمقدار ما رزق من سعة العاطفة الإنسانية ومن سلامة الذوق، ومتانة الخلق، وطبيعة الوفاء.
فلا يكفى أن يحب الناس ليحبوه، لأنه قد يحبهم وفى ذوقه نقص ينفرهم منه ويزهدهم فى حبه.
ولا يكفى أن يكون محبًّا سليم الذوق ليبلغ من الصداقة مبلغها. فقد يكون محبًّا محبوبًا حسن الذوق ثم يكون نصيبه من الخلق المتين والطبع الوفى نزرًا ضعيفًا لا تدوم عليه صداقة، ولا تستقر عليه علاقة.
إنما تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية، والذوق السليم، والخلق المتين، وقد كان محمد فى هذه الخصال جميعًا مثلًا عاليًا بين صفوة خلق الله.
كان عطوفًا يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته، وإن تفاوت ما بينه وبينهم من سن وعرق ومقام.
كان صبيًّا فى الثانية عشرة يوم سافر عمه، فتعلق به حتى أشفق العم أن يتركه وحده فاصطحبه فى سفره.
وكان شيخًا قارب الستين يوم بكى على قبر أمه بكاء من لا ينسى.وليس فى سجل المودة الإنسانية أجمل ولا أكرم من حنانه على مرضعته حليمة ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين، فيلقاها هاتفًا بها: أمي! أمي! ويفرش لها رداءه ويمس ثديها بيده، كأنه يذكر ما لذلك الثدى عليه من جميل، ويعطيها من الإبل والشاء ما يغنيها فى السنة الجدباء.
ولقد وفدت عليه هوازن وهى مهزومة فى وقعة حنين وفيها عم له من الرضاعة، لأجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبى إلى المسلمين أن يردوا السبى من نساء وأبناء، واشترى السبى ممن أبوا رده إلا بمال.
وحضنته فى طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية، ما يشغل الأب من أمر بناته ورحمه، فقال لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن …» وما زال يناديها يا أُمه كلما رآها وتحدث إليها، وربما رآها فى وقعة قتال تدعو الله وهى لا تدرى كيف تدعو بلكنتها الأعجمية، فلا تنسيه الوقعة الحازبة أن يصغى إليها ويعطف عليها.
وكان هذا عطفه على كل ضعيف ولو لم يذكره بحنان الطفولة ورحم الرضاع، فما نهر خادمًا ولا ضرب أحدًا، وقال أنس: «خدمت النبى ﷺ عشر سنين، فما قال لى أف قط، ولا قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ … ولا لشيء تركته: لم تركته؟ …»
وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسًا، صافى القلب إذا كره شيئًا رؤى ذلك فى وجهه، وإذا رضى عرف من حوله رضاه.
وقد اتسع عطفه حتى بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوى الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوى الرحم، فكان يصغى الإناء للهرة لتشرب، وكان يواسى فى موت طائر يلهو به أخو خادمه، وأوصى المسلمين: «إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطين»، وكرر الوصاة بها أن «اتقوا الله فى البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة.”
وقال: «إن الله غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس رَكى يلهث قد كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك …»
وقال فى هذا المعنى: “دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض.”
لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء، فكانت له قصعة يقال لها الغراء، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول، وكان له سرج يسمى الداج، وبساط يسمى الكز، وركوة تسمى الصادر، ومرآة تسمى المدلة، ومقراض يسمى الجامع، وقضيب يسمى الممشوق …
وفى تسمية تلك الأشياء بالأسماء معنى الألفة التى تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها «شخصية» مقربة تميزها بين مثيلاتها، كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب.