نبيل فهمى يكتب: المفاجآت المتوقعة والقرارات الصعبة
يُعَد صيف 2020 هو فصل «المفاجآت المتوقعة» فى العالم العربى، ففى شهر أغسطس (آب) وحده فزعنا من التفجير المدوى فى ميناء بيروت، وهنا كانت المفاجأة فى حجم التفجير، وليس فى التفجير ذاته، باعتبار أن الأوضاع اللبنانية الإقليمية والداخلية، كانت تمثل البارود الموضوع بجوار المتفجرات، التى ستنتهى حتما بالانفجار، وهو وضع يستدعى فحصا دقيقا ومصارحة كاملة، أقدمهما لاحقا فى مقال آخر.
قبل تخطى منتصف نفس الشهر صدر الإعلان عن توصل دولة الإمارات العربية إلى اتفاق مع إسرائيل تحت رعاية أمريكية، لتطبيع العلاقات بينهما، يصاحبه قرارٌ لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، بتعليق قراره السابق بضم مزيد من الأراضى الفلسطينية المحتلة إلى السيادة الإسرائيلية، وشكل الإعلان المفاجأة المتوقعة الثانية للشهر ذاته، حيث عكس تطورا رسميا وعلنيا جديدا فى العلاقات العربية الإسرائيلية على الساحة الخليجية، إنما لم يكن غريبا أو فريدا، بل إنه كان متوقعا أيضا، فقد سبقته اتصالات إسرائيلية عربية، وخليجية علنية عديدة مع عمان والبحرين، وأرسلت الإمارات مساعدات للفلسطينيين عبر المطارات الإسرائيلية. وسبق أن صرح المسئولون الإماراتيون، بأنه قد آن الأوان لتغيير منهجية المقاطعة العربية لإسرائيل بمنهجية تفاعل، واشتباك عربى إسرائيلى سعيا لتحقيق المصالح العربية عامة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية، وحفاظا على الحقوق العربية، وعلى رأسها إقامة دولة وطنية فلسطينية بجوار إسرائيل على الأراضى المحتلة عام 1967، بما فى ذلك القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين.
وبادئ ذى بدء أجد التسجيل مرة أخرى لزاما، إننى لست من مؤيدى خطة ترامب المسماة بـ«صفقة القرن»، وإننى غير متفائل أننا سنشهد تغييرا فى الموقف الإسرائيلى، أو فى ممارساتها، بخاصة أن تجارب التفاوض معها عبر السنين أثبتت أنها لا تقدم على السلام، إلا تحت ظروف جيوسياسية ضاغطة، مثلما شاهدنا فى أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وتسعى دائما إلى تفرقة العرب والتعامل معهم فرادى، عندما يكون توازن القوة فى مصلحتها، ولا تقدم على خطوة إيجابية ردا على ما يقدم عليه الآخرون، والدليل على ذلك تجاهلها مبادرة السلام الصادرة عن القمة العربية لعام 2002، التى عكست استعدادا عربيا للسلام الشامل، والتطبيع مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضى العربية المحتلة.
لست متفائلا حتى من التزام إسرائيل ما تعهدت به لدولة الإمارات، خصوصا وقد أكد نتنياهو أن قرار ضم الأراضى الإسرائيلية لا زال قائما، ليقينى أن التحفظ الأمريكى فى هذا الصدد، ليس على مبدأ الضم المخالف للقانون الدولى، وإنما على توقيت اتخاذ إسرائيل للقرار، لذا كنت ولا زلت أفضّل أن تُتَّخذ خطوات التطبيع العربى بعد انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية، أو على الأقل مع التوصل إلى اتفاق حول ذلك، يكون محل التنفيذ والتطبيق.
لذا أتفهم عدم ارتياح الإخوة الفلسطينيين للتطورات الجديدة، رغم أنها كانت واضحة، وعلى الأبواب منذ فترة، إلا أن الإدانة والشجب، وتحويل النزاع إلى عراك عربى، لا يفيد الحق العربى أو يضيف إليه، ويرفع الحرج عن المحتل الإسرائيلى، ويسلط الأضواء على الخلافات العربية بدلا عن المخالفات الإسرائيلية. فضلا عن أن الخطوة الإماراتية الجديدة هى فى النهاية قرار سيادى رسمى لدولة عربية شقيقة، اتُّخِذ بعد تقييمها وتقديرها لموقف دقيق، شمل مواءمة اعتبارات إقليمية ودولية عديدة، فى ضوء ما يحمل فى طياته من مجازفة ومخاطرة، وعلينا التعامل مع هذا القرار باحترام، حتى إذا لم يكن خيارنا المفضل أو رأيناه على غير هوانا.
وأعتقد أنه لا مكان، أو مجال لإضاعة الوقت والجهد فى المبالغة، وفى التشنج فى توجيه الاتهامات غير المجدية بين الدول والأطراف العربية، أو حتى فى تبادل التهنئة، وتضخيم حجم الإنجاز، وأرى أنه من الأفضل للجانب الفلسطينى والعالم العربى بلورة خطة تحرك للأشهر القادمة، من خلال إجراء ما يسمى بالهندسة العكسية للمبادرة العربية للسلام الصادرة لعام 2002، مع الاحتفاظ بهيكل مفهومها الأساسى، وذلك بأن العلاقات الطبيعية العربية الإسرائيلية، هى نتيجة منطقية للحل الشامل.
ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال الآتى:
أولا، تأكيد التأييد العربى لمبدأ أن علاقات طبيعية ستسود مع إسرائيل مع إنهاء احتلال الأراضى العربية.
ثانيا، فى هذا السياق بلورة الجانب الفلسطينى بقدر أكبر من التفصيل لعدد من عناصر مبادرة السلام العربية، فى ما يتعلق بالنزاع الفلسطينى الإسرائيلى، بغرض جعلها أرضية جاذبة للمفاوضات مع إسرائيل إذا تغيرت الظروف بعد الانتخابات الأمريكية، والإسرائيلية.
ثالثا، تحديد الجانب الفلسطينى لعدد من الخطوات، والإجراءات المتدرجة المطلوبة من إسرائيل تجاه تمكين الفلسطينيين من حقوقهم، يقابلها خطوات محددة ومتدرجة من الجانب العربى، تحقق محصلتهما عندما تستكمل أهداف المبادرة العربية، ألا وهى السلام الشامل وإنهاء إسرائيل لاحتلالها للأراضى العربية، مقابل توافر علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل.
قد يبدو هذا الطرح معقدا وحساسا وملغما بالحفر والمطبات، وهو بالفعل كذلك، وأعترف أن فيه الكثير من المخاطر، وسيدفع البعض بأنه سيفتح الباب للتطبيع، وقد يُستغَلّ كذلك من قبل بعض المغرضين، ومع هذا، أطرح هذه الأفكار لشعورى أن إدارة الرئيس ترمب، تعمل على هدم أسس عملية السلام، فضلا عن أن التطبيع غير الرسمى المتدرج، كان قد بدأ بالفعل، وسيستمر رسميا من دون تحقيق مطالب فلسطينية، ومن ثم فإن التحرك المزدوج المبدئى المتدرج بكل مخاطره، قد يكون مسلكا أفضل، وأكثر فائدة من إنكار الواقع، وإضاعة الوقت والجهد فى تبادل الاتهامات العربية، الأمر الذى لا تستفيد منه إلا إسرائيل وحتما إيران.
المسئولية الرئيسة فى بلورة هذا الطرح، والاقتراحات، والخطوات المطلوبة، يجب أن تقع على الجانب الفلسطينى والسلطة تحديدا، على الأقل فيما يتعلق بالمطالب الفلسطينية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، قد تكون الخطوات المطلوبة من إسرائيل فى ما يتعلق بالأراضى الفلسطينية، التزام حدود 1967، أو اتخاذ خطوات لتوسيع الأراضى، التى تقع الآن تحت السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، وتقليص مساحات الاستيطان الإسرائيلى، وبالنسبة إلى القدس الشرقية، يمكن تحديد خطوط محددة للمدينة، وآليات لضمان التأمين الدولى الكامل للمقدسات الدينية فى مدينة القدس بأكملها، هذا بالإضافة إلى ما يتحمله الأردن الشقيق، والخطوات المتدرجة، التى يمكن طرحها حول اللاجئين، قد تكون عودة بعضهم الآن فى إطار لم شمل العائلات، كما يمكن طرح صيغ جديدة للتواجد العسكرى الإسرائيلى الأمنى على حدود الدولة الفلسطينية المقترحة، واستبداله بقوات دولية، كلها أفكار وطروحات السلطة الفلسطينية، هى الأجدر فى تحديدها.
هذا وصاحب الإعلان الأخير أخبار عن وضع إستراتيجية جديدة للشرق الأوسط، وفى اعتقادى أن هذا الموضوع يشكل حساسية بالغة، وتدخل فيه اعتبارات عديدة تحتاج إلى تفكير عميق، وتشاور وتواصل بين الدول العربية، حول إستراتيجية للأمن الإقليمى لمستقبل العالم العربى والشرق الأوسط، أو على الأقل بين الدول الرئيسة الراغبة فى مناقشة هذا الموضوع الإستراتيجى، الذى يمس مستقبل المنطقة وهويتها، وقد حذرتُ مرارا من خطورة عدم وجود رؤية عربية للمستقبل، وسبق أن دعيت لحوار عربى لبلورة عناصر الأجندة العربية المستقبلية، حتى لا يُفرَض علينا المستقبل مرة أخرى، مثل ما شهدناه بعد الحرب العالمية الأولى.
هنا أقترح، تشكيل جامعة الدول العربية مجموعة عمل من مراكز بحث من مختلف المناطق العربية يمثلها خبراء مستقلون، لإعداد رؤية مستقبلية للعالم العربى عامة، وعلاقته بالشرق الأوسط تحديدا، على أن تُعرَض الرؤية بعد ذلك على الحكومات، وتُقَرَّ كأساس وأرضية مشتركة للتخطيط لمستقبل نأمل أن يكون أفضل مما كان، يحقق للشعوب العربية طموحاتهم المشروعة، ويحافظ على هوية العالم العربى، وأمن المنطقة واستقرارها، لصالح العالم العربى ورواده ونسائه ورجاله وشبابه وشاباته.
نقلا عن إندبندنت عربية
نقلا عن إندبندنت عربية