د. محمود محيى الدين يكتب: ذهب وبورصات وأفيال فى الحجرات

يعكس ارتفاع سعر الذهب عبر التاريخ، توقعات عموم الناس بشأن التضخم وزيادة الأسعار، أما إذا كان الارتفاع شديدا، كما رأينا مؤخرا، فهذا يشير إلى أمر آخر أكثر خطورة، ألا وهو تردى الثقة بالعملات الدولية السائدة. إذ يلجأ الناس إلى الذهب، كما فعلوا من قبل فى أزمنة الحروب، وتزايد مظاهر اللايقين والقلق من المستقبل وغموض احتمالاته. فالذهب ليس استثمارا جيدا فى الظروف العادية التى تتوفر فيها بدائل الاستثمار فى أصول وأوعية مالية وأنشطة اقتصادية مختلفة. فهو لا يمنح حامله عائدا كالسهم أو سعر فائدة كالوديعة أو السند. ولكنه يحقق لحامليه قيمة مكتنزة، إذا كان سعره غدا لن يقل عن سعره اليوم، ليحتفظ بقيمة المال فى وقت التقلبات والأزمات.

ووفقا لمجلس الذهب العالمى، فنصف الطلب المستمر على الذهب يأتى من استخداماته فى صنع الحلى والمجوهرات، وتمثل الصين والهند نصف السوق العالمية. والرافد الثانى للطلب يقوده المستثمرون الذين زاد طلبهم على الذهب بمقدار 235 فى المائة، خلال العقود الثلاثة الماضية. أما الرافد الثالث للطلب على الذهب، فقادته البنوك المركزية، خصوصا المنتمية للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية؛ حيث اشترت هذه البنوك 550 طنا فى المتوسط سنويا بعد الأزمة المالية العالمية. أما الرافد الرابع المتنامى منذ فترة هو استخدام الذهب فى الصناعات الإلكترونية، ثم فتحت تكنولوجيا النانو آفاقا لاستخدامات أوسع فى الصناعات الهندسية المتقدمة ولاحتياجات الطب والطاقة المتجددة. لكن المحددات الأهم لسعر الذهب وتغيراته يدفعها الطلب عليه لأغراض المضاربة على سعره، فى ظل عرض مقيد بحدود إمكانات استخراجه والتحكم فى المعروض منه.

أما التغيرات الحادة فى سعره كالتى نشهدها اليوم، فتدفعها ظروف عدم الثقة واللايقين.
فى الماضى القريب، تعرض سعر الذهب لموجات ارتفاع حادة إبان انخفاض التوقعات فى قيمة الدولار، بسبب التضخم المدفوع بأسعار البترول فى أواخر السبعينيات بعد الثورة على حكم الشاه فى إيران، بما هدَّد استقرار الدولار كعملة دولية. وجاءت الموجة الثانية الكبيرة فى أعقاب الأزمة المالية العالمية فى عام 2008، وما صاحبها من تبعات سياسية واقتصادية التى وصلت ذروتها فى عام 2011، بالخلاف فى الكونجرس حول مستقبل الدين العام وسقفه، متزامنا ذلك مع الأزمة فى نطاق اليورو التى هدَّدت استمرار الاتحاد الأوروبى. وفى هذه الأثناء ثارت تساؤلات حول مستقبل العملتين، الدولار واليورو، كعملتين دوليتين تشكلان حوالى 60 فى المائة و20 فى المائة تقريبا من الاحتياطى النقدى الدولى على الترتيب.

كان اللجوء للذهب مدفوعا بأغراض التحوط والمضاربة، ففى الفترة التى شهدت فيها البورصات انخفاضا بحوالى 57 فى المائة من أكتوبر (تشرين الأول) 2007 حتى مارس (آذار) 2009، ارتفع سعره بحوالى 26 فى المائة، وواصل ارتفاعه بعد تقلب فى أسعاره حتى تجاوز سعره 1920 دولارا، ثم بدأ فى التراجع حتى وصل سعره إلى 1200 دولار، مع إعلان الفيدرالى الأمريكى فى عام 2013 نهاية سياسات التيسير النقدى.

وفى مطلع هذا العام، كان سعر أوقية الذهب 1520 دولارا تقريبا، وبعد أزمة «كورونا» وتداعياتها تجاوز سعره 2000 دولار للأوقية الواحدة. حدث ذلك مع ما شهده الدولار من تراجع أمام العملات الرئيسية بسبب انكماش الاقتصاد الأمريكى، والإخفاقات فى التصدى لجائحة «كورونا»، واستمرار تصاعد التوترات الجيوسياسية، وشدة الاختلافات المحلية حول السياسات العامة، قبل أسابيع معدودة من الانتخابات الرئاسية.

وتتصاعد التساؤلات مجددا حول مدى قيام الدولار بدوره كعملة دولية، ومستقبله كعملة احتياطى للبنوك المركزية حول العالم. وتُبرز تعليقات الدوريات المالية والاقتصادية تزايد تخلى بعض الدول فى صادراتها عن الدولار فى تسوية معاملاتها. فروسيا الاتحادية، على سبيل المثال، زادت نسبة متحصلاتها باليورو عن صادراتها إلى الاتحاد الأوروبى من 38 فى المائة إلى 43 فى المائة، خلال الستة أشهر الماضية، كما لجأت دول آسيوية لتسوية تجارتها البينية بعملاتها المحلية، مع تزايد استخدام اليوان الصينى فى المعاملات الدولية، حيث أصبح خامس عملة فى التداول، سابقا الفرنك السويسرى، وإن كانت نسبته لم تتجاوز بعد 2 فى المائة من إجمالى التداول الدولى؛ ولكنها فى تقديرى مسألة وقت، كما اعتدنا فى العقود الأخيرة بشأن نمط تطور الأداء الاقتصاد الصينى ومنافسته عالميا.

ورغم ارتفاع سعر الذهب، فإنه لم يستطع الاحتفاظ بسعر 2000 دولار، كما تأرجح سعره بفعل المضاربة ودخول مستثمرى التجزئة، وكثير من المغامرين، فبعد ارتفاع إلى 2080 انخفاض بمقدار 200 دولار، حتى وصل إلى 1880 دولارا بين 6 أغسطس (آب) حتى 11 أغسطس، ووصل سعره اليوم وأنا أكتب هذا المقال إلى 1940 دولارا بنسبة زيادة بلغت 28 فى المائة منذ بداية العام، لعلك تقارنها بسعر فائدة يقترب من الصفر على الودائع الدولارية، ولكن الأمر لن يخلو مستقبلا من موجات تصحيح فى أسواق الذهب والبورصات أيضا.

فبعد ارتفاع قياسى العام الماضى فى البورصات العالمية بلغ 29 فى المائة، تعرضت البورصات لانخفاض شديد، وتقلب فى أسعارها، بعد اندلاع أزمة «كورونا» استمر لأسابيع، ثم اتخذت اتجاها صعوديا عوضت به خسائرها. تتكاثر التبريرات حول صعود البورصات، رغم الأزمات الصحية والاقتصادية الراهنة. كذكرهم أن المتعاملين فى البورصات يتطلعون للمستقبل على مدى 12 إلى 18 شهرا، وليس الأوضاع الراهنة التعيسة للاقتصاد؛ وأن البورصات مدفوعة بشركات التكنولوجيا الكبيرة، «أمازون» و«أبل» و«مايكروسوفت» التى ارتفعت أسهمها بنسب 80 فى المائة و60 فى المائة و35 فى المائة على الترتيب؛ وأن هناك من يراهن على وجود عقار ناجع لـ«كورونا» فى وقت قريب؛ وأن الأموال السائلة التى ضختها البنوك المركزية لم تجد لها وعاءً أفضل من الأسهم؛ وأن مزيدا من هذه الأموال السائلة فى الطريق بما يزيد من الطلب على الأسهم. فبمثل هذه التفسيرات يبرر البعض ازدهار البورصة، رغم ركود فى الاقتصاد يقترب به من حافة الكساد!

وفى هذا الصدد يطرأ بإلحاح ذكر تعبير يعبر عن حالة يكون الناس فيها مدركين لوجود مشكلات كبرى، ولكنهم ينزعون إلى تجاهلها عمدا، فيما يعرف مجازا «بالفيل فى الحجرة». وهو تعبير جاء على لسان الشاعر الروسى إيفان كريلوف فى القرن التاسع عشر، الذى وصف به زائرا لمتحف لاحظ وعاين كل مقتنياته الصغيرة، وتاه عنه ذكر الفيل الكبير الذى يتصدر أروقته. ولا يمكن بحال، الادعاء بعدم رؤية أفيال من التداعيات الكبرى للأزمات الراهنة، وتأثيرها على حياة الناس، ومعيشتهم، مع ارتفاع أرقام البطالة والفقر والديون.

يبدو أن الأزمات المتزامنة التى حلت بالعالم أربكت أولويات التعامل معها، وقد تكون باعثة على الضجر من إجراءات التصدى لها. ومع الاعتياد على وجودها تنتشر مظاهر للتهاون فى احتوائها، ويتزايد الركون إلى الظنون والتخرصات على الاحتكام إلى الحقائق والاستعانة بالعلم. فمع تفشى وباء كورونا، واقتراب عدد ضحاياه من مليون إنسان من إجمالى يتجه نحو رقم 25 مليون مصاب فى 188 دولة حول العالم، لا يمكن تجاهل أولوية الرعاية الصحية الأولوية، وتدبير وسائل الحصول على العقار المضاد لـ«كورونا» فى الإنفاق العام، لكى يصل لكل شخص من دون استثناء. ومع عدم وجود للقاح معتمد دوليا ضد الفيروس، سيظل الأثر الاقتصادى السلبى مرتفعا بتكلفة يتحملها اليوم أكثر من 400 مليون متعطل، وفقا لمنظمة العمل الدولية، واقتراب رقم من يعانون من الفقر المدقع من مليار إنسان. وفى هذه الأثناء ترتفع المديونات العامة مع احتمالات لتزايد حالات التعثر للدول والإفلاس للشركات.

هذه التحديات الكبرى لن يحتويها زيادة الذهب لمعانا وسعرا، أو ارتفاع سعر صرف عملة مقابل أخرى، أو أن تحطم البورصات المالية أرقاما غير مسبوقة؛ بل يسهم فى التصدى لها سياسات محكمة الأولويات، تتصدى للأزمات الطارئة من دون إهدار لقواعد التعافى المستدام فتحقق نموا فى الاقتصاد يخفض من البطالة والفقر، ويتجه بها إلى تمويل التنمية، حيث يجب أن يكون مستثمرا فى قطاعات الصحة والتعليم والمرافق الأساسية، بما فى ذلك ممكنات التحول الرقمى والتنافسية فى عالم شديد التغير.

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط