نبيل فهمى يكتب: المفاجآت المتوقعة والقرارات الصعبة (٢) الأوضاع اللبنانية
عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريرى فى 14 فبراير 2005، على أثر انفجار مدوٍ قتله وآخرون فى بيروت، كنت سفير مصر فى الولايات المتحدة، وسئلت حينها من المتابعين للمنطقة عن المسئول عن هذا الحادث الدموى، وكم من الوقت ستحتاجه السلطات اللبنانية فى إجراء تحقيقاتها لتحديد المسئولين الجنائيين، فترددت فى الإجابة على هذا السؤال بسرعة، ليس فقط تحسبا لنتائج التحقيق، وانما ايضا لعلمى أن الأوضاع اللبنانية والمواءمات المرتبطة بالساحة لم تساعد أيا من التحقيقات السابقة على التوصل لنتائج سريعة، بل إن تلك التحقيقات اللبنانية لم تنتهِ إلى توجيه اتهامات مباشرة.
ونظرا لعدم وجود رد محدد وواضح يمكن تقديمه فور وقوع الحادث، فضلت التركيز على التداعيات السياسية لهذا الحادث وليس الفاعل بذاته، مشيرا إلى أننا سنشهد خروج سوريا العسكرى السريع من لبنان، حتى قبل انتهاء التحقيقات حول الحادث، وهو ما تم بالفعل يوم 30 إبريل 2005، بعد 29 عامًا من دخول لبنان ضمن قوات حفظ السلام العربية بعد الحرب الإرهابية اللبنانية عام 1976.
ومع التفجير المروع فى بيروت يوم الثلاثاء ٤ أغسطس، تلقيت مرة أخرى استفسارات عديدة ومماثلة، بعضها من معارف اجانب وأخرى من عرب ومصريين وعكست اهتماما خاصا بتحديد المسئولين عن الحادث فى المقام الأول، وتطرق عدد قليل منهم إلى الاستفسارات حول تداعيات الحادث داخل الساحة اللبنانية وفى المشرق العربى، وتذكرت واقعة الراحل رفيق الحريرى، وترددى فى التعليق حينذاك، خاصة أننى وجدت نفسى مترددا مرة أخرى، وهذه المرة لأسباب متعددة منها عدم وضوح الرؤية، والأخرى للاحتمالات المتعددة لأسباب التفجير ومرتكبيها.
هل كان الأمر حادثا مدنيا نتيجة عدم تحمل المؤسسات اللبنانية الحاكمة مسئولياتها، وترك مواد شديدة الخطورة دون تأمين مناسب لفترات طويلة، أم أن الجانى طرف لبنانى سعى إلى لفت انتباه الساحة اللبنانية والدولية بعيدًا عن الأحداث الجارية فى الشرق الأوسط بشكل عام، أم أن توقيت الحادث مرتبط بإصدار وشيك لحكم اغتيال رفيق الحريرى، أم أن الدافع الرئيسى وراءه هو صراع مباشر بين إسرائيل وحزب الله، أو منافسة جيوسياسية واستراتيجية بين إيران وإسرائيل، أو غير ذلك من الاحتمالات العديدة المحتملة لكل هذه الاعتبارات وغيرها، لذا تجنبت أن اعطى الرد السريع، هذا بالإضافة إلى أننى اعتدت على تجنب التعليق على الأوضاع الداخلية لأى دولة عربية احترامًا لسيادتها وخصوصيتها.
وقبل أن أخرج عن هذا الالتزام، أود تقديم خالص التعازى للأخوات والإخوة فى لبنان للخسائر البشرية المؤلمة والمادية الوخيمة التى تعرض لها هذا البلد العزيز على يد غادر ومجرم، كان ذلك من اهمال عابث أو جرائم ضد الإنسانية فى صراع سياسى وأمنى.
ملاحظتى الأولى هى تشابه الظروف التى رافقت مقتل الحريرى وتفجير ميناء بيروت، وكلاهما حدث فى ظل توترات سياسية، بعضها له طابع إقليمى والبعض الآخر سياسى وطنى وداخلى ولهذه الظروف تداعياتها وانعكاساتها، فى ظل الضائقة الشديدة فى الوضع اللبنانى، والتى تعكس توغل وتسلط القرار السياسى الإقليمى أو الدولى على القرار اللبنانى الوطنى الداخلى، وعدم قدرة المؤسسات الدولة اللبنانية على إدارة شئون البلاد باستقلالية، وبما يخدم الصالح والأمان العام، وهى ضائقة ادارة سياسية حادة منذ عقود من الزمن، ولن يخرج منها ويصلح الطريق دون مراجعة المنظومة السياسية اللبنانية بأكملها، وإعادة غلبة الهوية الوطنية اللبنانية على حساب الهويات الطائفية أو العرقية أو الدينية، فى بوتقة تشمل الكل تعبيرا وتمثيلا، وإنما دون أن يكون ذلك على حساب الهوية الوطنية اللبنانية.
الملاحظة الثانية هى أن التحرك الوطنى بشأن الحادث الأخير كان بطيئًا مرة أخرى، ولم يتجاوز الإجراءات التقليدية مثل استقالة الحكومة، وترشيح رئيس جديد لها، واستقالة بعض النواب والتحقيق مع المسئولين المدنيين عن الميناء ومرفق المستودع الكيميائى، بينما شهدنا تحركا خارجيا اسرع، وقدم الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون سلسلة من المقترحات وعددا من الطلبات الجوهرية للإصلاح الداخلى اللبنانى، ودعا إلى تغيير النظام السياسى فى البلاد، مهددا بأنه إذا لم يتم الاستجابة لذلك خلال أسبوعين سيصدر قرار من مجلس الأمن للأمم المتحدة ويوكل لقوات الحلف الأطلنطى فرض الأمن والاستقرار فى لبنان، وهو طرح جرىء وغريب فى آن واحد، ولا يمكن طرحه دون تشاور مع أعضاء الحلف الأطلنطى وخاصة الولايات المتحدة، فضلا عن أنه يستحيل إصدار قرار من مجلس الأمن دون موافقة روسيا والصين فى ضوء حيازتهم لحق الفيتو.
ومن المستبعد أن تؤيد روسيا والصين تحرك الحلف الأطلنطى بسرعة وتلقائية خاصة بعد التجربة فى ليبيا، وهذا يثير التساؤل عما إذا كانت فرنسا قد تشاورت مسبقا مع الدولتين أيضا، وما هى الصفقة السياسية التى تجعلهما يتماشيان مع هذا التحرك، وما هو التحرك الغربى الأمريكى المحتمل إذا تعذر صدور قرار، كل هذه الأسئلة تطرح فى سياق احتمالات توافر أو بدء بلورة صفقة سياسية جديدة للشرق الأوسط، ورغم عدم اكتمال الصورة او حتى توافر عناصر الصفقة الدولية المحتملة، لا يستبعد أن تكون من أهم اهدافها ضبط إيقاع النفوذ الإيرانى فى المشرق، وهو ما تؤمن به بدرجات ولأسباب مختلفة امريكا واسرائيل وتركيا وروسيا وحتى عدد من الدول العربية، وقد يرى البعض ايضا استغلال هذا الظرف للضغط لتحقيق مزيد من الانكماش والحصر فى الساحة المتاحة للنظام العربى، تمهيدا لفرض وتقنين أوضاع سياسية جديدة فى المشرق ومنها إلى العالم العربى، فى سياق التخطيط المستقبلى للمنطقة، لذا يجب صيانة الهوية العربية وما تبقى من الهوية اللبنانية.
هذا ومن شأن التداعيات الإقليمية الدولية أن تنعكس على تفاعل وتعامل الساحة اللبنانية المحلية مع تفجيرات ميناء العاصمة، والمطالب الشعبية اللبنانية الرئيسية والمشروعة فى هذا الصدد، والتى كانت مثارة حتى قبل التفجيرات الاخيرة، مثل القضاء على الفساد السياسى والإدارى اللبنانى، وإنهاء المخصصات الطائفية فى المنظومة السياسية اللبنانية، علما ان هذه المنظومة بدأت فى البلاد منذ منتصف القرن التاسع عشر تحت الإمبراطورية العثمانية، بدعم من الغرب الأوروبى، الذى رأى التعددية الدينية عنصرًا من عناصر الإصلاح، وتم تعزيزها بقوة فى الدول الغربية بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، عند قيام الدولة اللبنانية عام 1920 تحت الاحتلال الفرنسى، لمواجهة التيار القومى العربى مسيحيين ومسلمين، حيث ايد الميثاق اللبنانى الأول ولفترة مؤقتة ومحددة المعادلة الطائفية، والتزمت جميع الحكومات اللبنانية منذ الاستقلال عام 1943 بإلغائها، وذلك فى نفس الوقت الذى ترسخت الممارسات الطائفية وتوزيع الحصص لصالح الطبقات القيادية فى الطوائف المختلفة، ورأى البعض أن ذلك حافظ على استقرار لبنان لفترات وإنما فجر الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990، عندما طغت المصالح الفئوية والشخصية على حساب مصالح وحقوق الغالبية العظمى من الشعب اللبنانى بين طوائفه وداخلها.
وبالتالى، فإن الخروج من الازمة الحالية لن يكون سهلا او سلسا لتعقد وتعدد المصالح، وتعدد الاطراف الخارجية والداخلية المؤثرة على الساحة اللبنانية والمشرق، خاصة أن الكثير من المطالبين بتغيير النظام اللبنانى هم الذين كانوا وراء وضع هذا النظام وترسيخه، كما ان منظومة الخصخصة غير الطبيعية هى التى وفرت فترات من الاستقرار داخل البلاد وبين الحروب الأهلية التى كانت تنفجر كل 15 عاما تقريبا.
فهل يغلب العقل والمنطق لحساب لبنان وشعبه على الطمع والانتهازية الشخصية والوطنية بين الدول والأطراف المتكاثرة على الساحة اللبنانية؟ أم أننا نشهد فصلا جديدا فى الترتيبات بين لبنان والقوى الأجنبية على حساب حقوق المواطنين والسيادة اللبنانية؟ هذا السؤال المربك تصعب الإجابة عليه بثقة وتفاؤل. وانما لا مبالغة فى القول إن أمن لبنان الشقيق وشعبه لن يتحقق إلا بتغليب الهوية الوطنية اللبنانية على المصالح الطائفية أو الشخصية والسيادة اللبنانية فوق أى حسابات لمواءمات السياسية الدولية.