سامي شرف يكتب: الناصريون
نصف قرن من الزمان على رحيل الرئيس جمال عبدالناصر لم يَخْبُ فيها يومًا وهجُ الزعيم، كأسطورة حية حاضرة فى العقل والوجدان المصرى والعربى تأبى الغياب، ورغم سنوات عمره القليلة بمقياس الزمن ــ 18 عاما ــ إلا أنه بمقياس التأثير والحضور سيظل جمال عبدالناصر فصلا استثنائيا فى المشهد المصرى والتاريخ العربى كله.
وفى مثل هذه المناسبة يحلو للبعض أن يقيم تجربة الرجل من خلال من يدعون أنهم يسيرون على دربه، ممن يطلق عليهم المحللون السياسيون أو الأكاديميون «الناصريون».
ولن أدخل فى جدل تعريف الناصرية، ومن هم الناصريون، وتقييم الناصرية.. تلك الجدليات التى تحتاج لمجلدات لحسمها وأظنها لن تحسم.
ما أود أن أؤكد عليه فى هذا السياق، أن عبدالناصر لم يكن مجرد رجل تولى مسئولية حكم هذا الوطن؛ فما أكثرهم عبر تاريخه الطويل. عبدالناصر أعظم ما قدمه لهذه الأمة ــ من وجهة نظرى – أنه جعل الحلم ممكنا، وفتح أفقا واسعا أمام أبناء هذه الأمة، وأصبح بنضاله القومى والعروبى، وما جسده من قيم الحرية، والعدالة الاجتماعية، والعزة والكرامة والسيادة الوطنية ــ تلك القيم التى افتقدها المصريون والعرب لعقود طويلة بفعل سياسات الاستعمار وعملائه – نموذجا ومرجعا، ورمزا يدافع عنه أبناء هذه الأمة، ويورثوا مبادئه وحبه لأبنائهم، وهو بالنسبة لهم مشروع لم يكتمل ويحلمون بيوم تحقيقه، وبوصلتهم الوطنية الذين يهتدون بها فى انكساراتهم وانتصاراتهم، وملاذهم الأخير من وطأة اليأس.
هؤلاء هم الناصريون، وهم يمثلون الملايين، والأغلبية الكاسحة من أبناء الوطن العربى من المحيط إلى الخليج، وربما على امتداد العالم الحر.
أما السياسيون الذين يملَئُون الساحات بشعارات عبدالناصر، ويدعون الدفاع عن مبادئه، ثم يتحالفون مع أعداء مبادئه، أو يتناحرون فيما بينهم، أو يتاجرون باسم عبدالناصر وشعاراته لتحقيق مكاسب شخصية أو أطماع سياسية، فهؤلاء ليسوا ناصريين قط، وعبدالناصر منهم براء؛ فلم يكن عبدالناصر يوما مساوما على مبادئه، ولم يكن يوما من دعاة الفرقة، ولم يكن ساعيا لتحقيق أهداف أو مكاسب شخصية.
إننا فى تلك المرحلة الفارقة من تاريخ الوطن والأمة؛ حيث يتكالب المتآمرون من كل حدب وصوب للقضاء على الدولة الوطنية العربية، وتمزيق الأمة، وطمس هويتها ــ فى أمس الحاجة لمبادئ وقيم ومشروع عبدالناصر (الناصرية)، وليس لشىء آخر.
نحن فى أمس الحاجة لما يمثله جمال عبدالناصر من قيم الوحدة، والتضامن، والدفاع عن ثوابتنا الوطنية، وهويتنا القومية.
والأهم، أننا فى أمس الحاجة لاستعادة ثقة المواطن، وليس هناك أفضل من مشروع وطنى حقيقى، يلتف حوله الجميع، ويرون فيه هدفا يستحق التضحية من أجله، ولن يتحقق هذا بمنأى عن العدالة الاجتماعية، والانحياز للبسطاء من أبناء هذا الوطن، فهم ملح الأرض، ومخزونها الحضارى، وملاذها فى الشدائد.
وأختم بجزء من قصيدة الفاجومى أحمد فؤاد نجم عن عبدالناصر يقول فيها:
أبوه صعيدى وفهم قام طلعه ظابط
ظبط على قدنا وع المزاج ظابط
فاجومى من جنسنا
ما لوش مرا عابت
فلاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السهام صابت
عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
ان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت
ولا يطولوه العدا
مهما الأمور
جابت
ولن أكرر ما قيل ويقال فى هذه المناسبة من كل عام، فتقييم تجربة عبدالناصر تناولها الكثير عبر العقود الخمس الماضية بالنقد والتحليل، سواء بموضوعية أو لا، إلا أن الرجل بمشروعه القومى العروبى، وانحيازه للفقراء من أبناء هذه الأمه، وتجسيده للعدالة الاجتماعية، وطهارة اليد، ودفاعه القوى عن مبادئ العزة والسيادة والكرامة الوطنية ــ تلك القيم التى افتقدها المصريون والعرب لعقود طويلة بفعل سياسات الاستعمار وعملائه ــ صار فى المخيلة الشعبية بطلا أسطوريا أراد لشعبه وأمته العزة والكرامة، وتربع على قلوب أجيال متعاقبة من ملايين المصريين والعرب البسطاء.