مصطفى الفقى يكتب: مستقبل جامعة الدول العربية
تعوَّد العرب وغير العرب أن يصبُّوا جام غضبهم على جامعة الدول العربية أمام أى فشل يلحق بالعمل العربى المشترك أو بالقدرة على مواجهة إسرائيل ودائما التبرير موجود، فالجامعة تبدو كالكيان المحنط ويطلق عليها البعض الثلاجة الكبيرة على ضفاف نيل القاهرة، ولا شك أن الظروف التى نشأت فيها الجامعة بمباركة بريطانية وتوافق مصرى سعودى جرى فيه إقناع الملك عبدالعزيز الكبير بالمشاركة فى قيامها والانضمام إليها واختيار عبدالرحمن عزام أول أمين عام للجامعة هو جزء من الحوار بين القاهرة والرياض، فكان اختيار عزام المصرى والقريب من المملكة هو محاولة لإقناع السعودية بالقبول، ولقد كان قيام الجامعة مرتبطا إلى حد كبير بالوضع فى فلسطين حينذاك ومواجهة المد الصهيونى الذى كان قد بدأ يتزايد، حتى أن الملحق الوحيد بميثاق الجامعة كان عن فلسطين، وفى رأيى أن الجامعة المفترى عليها هى مُحصلة للواقع العربى، فهى تتأثر بمجموع إرادات الدول الأعضاء ووجود رغبة مشتركة فى دعمها من عدمه، ولذلك فإن الذين يصبون جام غضبهم على الجامعة لا يدركون أنها آلية تنظيمية وإدارية وليست صاحبة إرادة حرة، كما أن الجامعة العربية تعانى هى الأخرى من عدد من المشكلات التى يمكن تلخيصها فيما يلى:
أولا: نقص الموارد المادية والبشرية، إذ إن معظم الدول العربية الثرية لا تدفع حصتها فى الجامعة إحساسا بضآلة دورها وهامشية وزنها، حتى أصبحت لديهم مثارا للتندر ليس من الآن فقط، بل منذ عدة عقود، فلقد تغنى العراقيون ذات يوم قائلين: حسونة مزونة، يقصدون عبدالخالق حسونة الأمين العام الثانى للجامعة الذى كان معروفا بعلمه وأدبه، ولكنهم حاولوا تشبيه الجامعة فى عهده بأنها قطة، وهكذا نرى أن الجامعة العربية منذ ميلادها لم تكن قوة فاعلة فى صفوف التنظيم الدولى الإقليمى، بل كانت دائما محل انتقاد، معتبرين أنها نوع من الفلكلور السياسى أو الحشد العاطفى فى بعض المناسبات.
ثانيا: لم يقف الأمر عند هذا الحد، فإن الدول التى أحجمت عن دفع أنصبتها فى الميزانية السنوية للجامعة، فعلت ذلك فى إشارة واضحة إلى عدم الاهتمام بالجامعة والشعور بأن مستقبلها مرتهن بتغييرات كبرى جرت وتجرى فى المنطقة، وأن القرارات لا تجدى ولغة الشجب لا تغنى، ولقد اختلفت وجهات النظر العربية فى طبيعة الهيكل التنظيمى للجامعة وانتقد البعض فى مراحل معينة الإسراف فى فتح مكاتب للجامعة بالخارج، وعندما ذهب السادات إلى كامب ديفيد كانت تلك هى نقطة تحول كبرى فى شخصية الجامعة وهوية أعضائها إذ كانت إيذانا بميلاد مرحلة جديدة لم تكن متوقعة أو مدروسة من قبل، ومع ذلك فإن الاختراق الذى أحدثه السادات كان بمثابة جرس إنذار يفيق به كل من له صلة بهذا الملف الحساس.
ثالثا: لاحظنا أن مسألة تدوير منصب أمين عام جامعة الدول العربية تستحوذ أحيانا على تفكير وزارات الخارجية العربية على اعتبار أن الميثاق نص على أن يكون مقر الجامعة هو القاهرة، ولكنه لم ينص على أن يكون الأمين العام مصريا، والغريب أن العرب الذين انتقدوا التقليد المصرى فى هذا السياق هم أنفسهم الذين اختاروا تونسيا هو الراحل الشاذلى قليبى أن يكون أمينا عاما لجامعة الدول العربية عندما انتقل المقر إلى تونس فكان تصرفهم ذلك إيذانا بسلامة الإجراءات وصحة التقديرات.
رابعا: لقد حاولت بعض الدول ــ وربما أخص منها دولة الجزائر ــ تطويع منصب الأمين العام بحيث لا يصبح كما يراه البعض جراجا لوزراء الخارجية السابقين بل لا بد أن يكون هناك تدفق لمياه جديدة ودماء حيوية تصب فى هذا الكيان العربى الكبير مهما كانت انتقاداتنا له أو حتى درجة السخرية منه، ولابد أن نعترف هنا أن مصر هى من أكثر الدول العربية تمسكا بالأوضاع الناجمة عن ميلاد الجامعة وظروف نشأتها ومحاولة استقطابها، ولكننا نعرف أنها فى مثل هذا الأمر تحديدا لن تكون مرنة ولا طيعة، والأمر فى ظنى يحتاج إلى نظرة علوية ترى الأمور بشكل موضوعى وتقيم دراسة المقارنة بين جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية المثيلة على اعتبار أن جامعة الدول العربية هى تجمع لعدد من الدول بينهم روابط مشتركة وليست مجرد مجموعة من الكيانات السياسية، فالجامعة العربية منظمة إقليمية قومية يجمع بين أعضائها لغة واحدة وثقافة مشتركة وظروف تاريخية متماثلة وجوار جغرافى دون موانع طبيعية كبرى، ولعل ذلك هو المبرر الذى يسوقه دعاة اختيار الأمين العام من دولة المقر إذ إنه فضلا عما يوفره له ذلك من تسهيلات فى بلده وعلاقات مباشرة مع المسئولين فيها لخدمة الجامعة مقرا وكيانا فإنه يتماشى مع المفهوم القومى الواحد لعضوية الجامعة التى من المفترض فيها حسب ميثاقها أن يكون كل أعضائها من الدول العربية المستقلة.
خامسا: تبدو المعادلة الصعبة فى الأفق حاليا، إذ إن أربع دول عربية لها علاقات مباشرة وعلنية مع إسرائيل، لذلك فإن ميثاق الجامعة قد يحتاج إلى نوع من المراجعة يترك الباب مفتوحا للقبول الطوعى بإقامة علاقات مع إسرائيل من دون أن يؤثر ذلك على العضوية الكاملة فى الجامعة العربية، واضعين فى الاعتبار أن مصر هى الدولة الوحيدة التى تلقت عقوبة وقتية بسبب ذلك حين جرى نقل مقر الجامعة ــ خلافا لنص ميثاقها ــ إلى تونس، وظل الأمر كذلك حتى عادت مصر إلى العرب أو عادوا هم إليها، فالقضية حاليا تحتاج إلى قدرة توفيقية تتخطى حاجز الخصومة مع الدولة العبرية لتصل إلى التعايش المشترك رغم كل تصرفات إسرائيل الاستفزازية والعدوانية، وهذا يقودنا إلى الأمل فى أن تتحول الدول التى قبلت الاتفاق مع إسرائيل، أخيرا، إلى قوة عربية وسيطة تسهم فى رفع المعاناة عن الشعب الفلسطينى وتسمح له بأن يمضى على الطريق الصحيح من أجل إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس تمهيدا لوجه مختلف لشرق أوسط جديد قد لا يتحقق أمره بالسهولة التى نتحدث بها ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.
إن خلاصة القول هى أن إعلان دولتى الإمارات والبحرين عن توقيع اتفاق يكفل التعاون المباشر والعلنى مع إسرائيل، إن هذا الأمر يفتح بابا للاجتهاد أمام الخبراء المعنيين بشأن الجامعة العربية تاريخا وحاضرا ومستقبلا وهو أمر يلقى علينا تبعة كبيرة فى ضرورة القيام بإصلاح شامل للمنظمة العربية الأولى من النواحى الفكرية والسياسية بل والاقتصادية والثقافية وإعادة النظر فى بنود الميثاق الذى صدر مع نشأة الجامعة، إذ إننى أظن أن الدور الثقافى لجامعة الدول العربية سوف يبرز أكثر من أى وقت مضى باعتباره المؤشر الثابت لمفهوم العروبة وهو مفهوم يعلو على الخلافات والصراعات والصدامات، إن مستقبل جامعة الدول العربية حاليا يبدو وكأنه فى مفترق الطرق، فإما توجه إصلاحى يوائم بين شخصية الجامعة والظروف المستجدة أو تناقض يؤدى إلى خلافات حادة بين الدول الأعضاء ولا يسمح بوجود مساحة للاختلاف فى الآراء، خصوصا إذا كانت تتعلق بالتوجه الاستراتيجى الجديد للجامعة العربية، تلك المؤسسة المفترى عليها دائما المقدر دورها قليلا.
نقلا عن إندبندنت عربية