المسدس
أتجول فى أرجاء المنزل بخطوات سريعة ، أحاول أنجاز مهام يومى المثقل بمطالبه المتلاحقة ، تتعالى نبرات الراديو االقابع فى ركن بعيد من أركان المطبخ معلنة عن بدء نشرة الأخبار،يلفت انتباهى موجز النشرة و هو يلقى بحمم الحياة المتصارعة على كاهل هذا الكوكب المسكين ، يمتزج صوت المذياع بطلقات الرصاص فى الفيلم الدائر على شاشة التليفزيون فأصرخ فى طفلى الصغير ناهرة إياه عن متابعة مثل هذه الأفلام لكنه لا يرد ، يزداد غضبى فأخرج اليه فى ثورة عارمة لأجده مسحورا أمام أبطال خيالاته من البواسل الذين يتبادلون القتل فيما بينهم كلعبة من ألعاب الصغار ، أتجه بسرعة نحو التليفزيون لأغلقه و أنا العن فى نفسى هؤلاء المخططين لبرامج هذا الجهاز السحرى الملعون ، يبكى الصغير فى حرقة و انفعال و هو يطالبنى بإجراء حوار ديموقراطى عن سبب ما أعلنته فى المنزل من أحكام عرفية تنتقى له ما يجب أن يشاهده و ما يجب أن يبتعد عنه ، أحاول تهدأته بجلب لعبه إلى صالة المنزل ، أفردها أمامه على الأرض لكنه ينساق إلى عناده فأتركه متيقنة أنه سيهدأ بعد قليل من تلقاء نفسه ، أعاود نشاطى الذى قطعه ذعرى على مشاعر طفل لا يدرك مدى وحشية الأحداث التى سينشأ فيها ، و عندما بدأ إنسجامى مع عملى وجدته أمامى كأنما أنشقت الأرض عنه فلم أشعر بخطواته المتلصصة وراء ظهرى و بادرنى فجأة فى لهجة طفولية محببة :
عايز مسدس يا ماما .
التفتت إليه فى ضيق من سذاجته التى لا تتلاءم مع انشغالى و أجبته بسرعة :
ما انت عندك مسدسات كتير فى لعبك .
قاطعنى فى حماس شديد :
لا أنا عايز مسدس بحق و حقيق .
اكاد ان انهره لكن نظرة البراءة المتدلية من بين أجفانه تدفعنى الى الرد عليه فى رقة متناهية :
تعمل ايه بالمسدس يا حبيبى ؟ أنت لسه صغير .
تلوح بوادر العناد من جديد لتطل على حديثنا عندما قال :
ما ليش دعوة ، اشمعنى الراجل فى الفيلم كان معاه مسدس بيموت بيه الناس ؟ انا كمان عايز اموتهم مش بتقولوا انهم كتير ؟،
ضحكت رغما عنى فمنطقه البدائى لم يتجاوز سنوات عمره القليلة لكننى اعود الى اتخاذ مظهر الجد و انا احاول ردعه عن أفكاره الصبيانية و رددت فى حسم :
أبطال الأفلام بيموتوا الأشرار بس أنما انت عايز تموت الناس كلهم يعنى يرضيك انك تموتنى ؟
رمشت عيناه فى رعب و هو يتخيلنى طريحة الأرض كالجثث التى شاهدها فى الفيلم فصرخ فى حدة :
ما تخافيش انا اخليكى انتى و بابا و كل قرايبنا .
التقطت منه خيط الأمل بسرعة و تلمست طرق الحديد و هو ساخن فسارعت قائلة :
طيب و اصحابك فى المدرسة و جيرانك اللى بتلعب معاهم فى الأجازة مش كل دول حبايبك ؟ تحب انهم يموتوا و ما تشوفهمش تانى ؟
تحول عناده الى حيرة من وقع فى المصيدة و لا يعلم سبيل الفرار فاستدار عائدا الى العابه و هو يزفر فى حرقة :
يوووه انا مالى بكل دول انا عايز مسدس و خلاص .
بخروجه الى عالمه قذفت بنفسى بين أحضان التساؤلات فمن أين جاءته هذه الأفكار المرعبة عن الموت و القتل و العنف ؟ لم انتبه الى اننى تركت تليفونى امامه فاستمعت مرة اخرى الى اصوات الطلقات النارية فى اللعبة التى انزلها على تليفونى الخاص بدون استئذان ليعوض بها غياب أفلامه. المحببة ، أنتابنى قلق محموم فألقيت ما بيدى و تقدمت نحوه بسرعة فتراجع بخطوات مذعورة نحو الجدار و القى التليفون من يده ، واجهنى برعب شديد و رفع يديه ليتقى صفعاتى التى كان يتوقعها ما بين لحظة و اخرى و بدات حبات الدمع الصغيرة تتلألأ على وجهه فضممته الى صدرى و انا أهدهده بكلمات التدليل المحببة اليه ، أطلقته من بين ذراعى و نظرت فى عينيه بحزم و ثبات و انا اردد قائلة :
أوعى تفكر كده تانى القتل حرام بعدين ربنا يغضب عليك و يدخلك النار و مهما حاولت مش ح تقدر تشترى المسدس دلوقتى أستنى لما تكبر و يكون من حقك تشتريه .
بدت على وجهه دلائل الاقتناع كما توهمت فتركتى و هو يردد فى نبرات خفيضة ما زالت مختنقة بشهيق البكاء :
اوعدك انى استنى لما اكبر بس برضه ساعتها ح تشتريه .
أستكان قلقى شيئا فشئ و انزوى فى قاع ذاكرتى ليحتويه النسيان ، مرت الايام و شب طفلى أمام ناظريا و شب معه امله الذى كان صغيرا ، تحول الحلم الى حقيقة عندما عاد يوما من كليته و هو يحمل لفافة يحرص عليها حرصه على الحياة نفسها ، جرى مندفعا الى حجرته و فض اللفافة و تناول منها مسدسا جديدا يلمع تحت ضوء الشمس التى تغمر الغرفة ، حمله بفخر و اعتزاز كأنه يستكمل به اركان رجولته دفعنى الفضول الى النظر خلسة من انفراجة صغيرة فى الباب و فاجئتنى يده و هى تشد الباب بقوة بينما تصوب يده الاخرى المسدس الى قلبى ، أصابنى الذعر و انا اصرخ فى وجهه ليبعد هذا الشيئ البغيض عنى لكنه استمر فى مزاحه متقدما نحوى فى خطوات ثابتة و هو يهددنى بالقتل اذا لم ارضخ لرغباته الشيطانية ، دفعت يده و تعالى صوت موجز نشرة الأخبار ليتعانق مع طلقة الرصاص التى اخطأت طريقها و استقرت فى صدر اببه لتتناثر شظاياها على أرضية الغرفة تهاوى الاب فى بطء الى الارض و تراءى امام عينيه ملك الموت تساقطا سويا القاتل و المقتول ليستقر المسدس بينهما و يرخى استار الظلام على قصتنا و ما زال الراديو يبث على الدنيا حممه المتصارعة .
انتهي ……….
باكينام قطامش