وزير الخارجية السابق نبيل فهمي يكتب: تعاون العالم العربي الجاد أفضل من التطابق غير الواقعي لمواقفه
بعدما أنشئت جامعة الدول العربية فى النصف الأول من القرن الماضى، اتجه العالم العربى بمعدلات سريعة نحو الالتفاف حول مفهوم واحد جماعى للمصالح والمواقف العربية، وأفرط فى استخدام تعبيرات مثل «تطابق المواقف» و«الإجماع العربى»، وحتى فى غياب ذلك، تعبيرات وتوجهات اصطدمت بحقيقة مختلفة، ألا وهى أنه مع توفر عناصر عدة توحدنا تاريخيا وثقافيا، بل أيضا سياسيا عندما يكون التهديد غير عربى، مثل تلك المتعلقة بحقوق العرب ضد المحتل الأجنبى، وبين أنه لم يكن هناك إجماع حقيقى ومستقر حول الكثير من القضايا والتفاصيل الأخرى، بخاصة فى ما يتعلق بالمصالح أو الأولويات الوطنية، وظهر ذلك تارة بين الدول الملكية المحافظة والجمهوريات التقدمية، وتارة أخرى بين الجمهوريات والملكيات ذاتها.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف الطبيعى، بالغنا فى استخدام تعبيرات تعطى انطباعا خاطئا وغير منطقى بأن للعرب مواقف متطابقة على الدوام فى كل شىء، حتى أفرغنا هذه التعبيرات من معناها فى الساحة العربية، وفقدنا مع الزمن والتكرار المخل لوصف الحقيقة، الكثير من مصداقيتنا السياسية أمام شعوبنا، بعدما ارتفعت توقعاتهم بشكل غير واقعى. ومن تداعيات هذه المبالغات أن عددا من الدول الأجنبية بدأت تتريث وتتلكأ فى الدخول فى علاقات استراتيجية مع الدول العربية أو الدفاع عن مواقفها، إلا إذا كانت هناك حاجة ملحة ومباشرة تفرض عليها ذلك، مثل ضرورة الدعم العربى فى التنافس الدولى بين التجمع الشرقى والغربى سابقا، أو المتطلبات المرتبطة بمصادر الطاقة أو التطلع إلى الأسواق والموارد العربية.
وليس إسرافا القول إن تلك المبالغات كانت أخطاء جسيمة من عالمنا العربى افقدتنا الكثير من المصداقية، دفعنا على إثرها ثمنا غاليا مع شعوبنا وأصدقائنا لاستيعاب التطلعات والإدارة الرشيدة للتوقعات، وثمنا باهظا فى كبح جماح أعدائنا والتطلعات غير المشروعة لدول الشرق أوسطية فى الحقوق والمصالح العربية.
وفى الآونة الأخيرة، تنامت وتكررت الأسئلة التى تعكس القلق على الوضع العربى العام، بعضها فى العلن، بدرجات متفاوتة من الصراحة، من ضمنها تصريح الزميل العزيز معالى صبرى بو قادوم، وزير خارجية الجزائر، حينما تحدث عن «غياب النية والإرادة السياسية لإصلاح جامعة الدول العربية». وهو تصريح صادم، على الرغم من أنه قد يكون صادقا، علما أننى واثق أنه إذا استرسل الوزير الجزائرى كان سيطرح المزيد وسيتناول حالات عدة بشجن شديد عن الوضع العربى من زاوية مختلفة، كلها ترتبط بأن «التطابق أو حتى التوافق» غائب فى المواقف، بل يفتقر فى الكثير من الأحيان حتى إلى التعاون العربى فى عدد كبير من القضايا المهمة على الرغم من التحديات الجسيمة التى نتعرض لها.
ولاعتبارات عدة، كانت الريادة الفكرية العربية خلال القرن الماضى لدول الشمال العربى فى شمال أفريقيا وفى شمال المشرق، وخرجت من ربوعها معظم التيارات السياسية والتوجهات الاجتماعية، وكان لدول الشمال مركز الريادة العربية، ودلالاته المختلفة، ومنها اختيار القاهرة مقرا لجامعة الدول العربية عندما أنشئت وكانت أول منظمة إقليمية عام 1945، وكذلك أن الثقل الرئيس لرسالة القومية العربية ووحدة العالم العربى، صدرت أيضا من شمال العالم العربى، وإنما مع إيجابيات رسالة القومية العربية، فقدت الكثير من مصداقيتها لفرضها التوافق الكامل أو الصدام بين الدول العربية ذاتها وتركيزها على التصدى للأخطار الحقيقية والوهمية، بدلا من العمل بالتوازى على التصدى والتطوير والتوافق الحقيقى عوضا عن التوافق والتطابق الخيالى، وهى أفكار باتت تدريجيا تفقد رونقها وجاذبيتها، مع اختلاف وتنوع القضايا والأولويات بين منطقة وأخرى، وبين الدول العربية الأقدم والأخرى الأكثر حداثة بعد استقلالها، فضلا عن تباين الأولويات داخل الدولة الواحدة بين الأجيال مع تنامى نسبة الشباب وتطلعهم نحو المستقبل.
ومع تنوع وتعدد تحديات القرن الماضى ووجود خلافات عربية فى الماضى، سارعت بعض الدول العربية إلى تشكيل مجموعات ومؤسسات وطنية ودون الإقليمية، وهو تطور ليس بالضرورة مضرا، لأن الغرض منه تفعيل التعاون فى ما بين دول متماثلة فى الخصائص والأولويات. كما أنه أمر منطقى فى ضوء عدم تطور المفهوم العربى وعدم فاعلية العمل المشترك فى التعامل مع القضايا العاجلة. ومن تلك المؤسسات، مجلس التعاون الخليجى الذى تطور كثيرا قبل التعثر الأخير، وعلى مستويات أضعف، كان هناك مجلس التعاون العربى والاتحاد المغاربى.
ومع بدء عملية السلام العربية الإسرائيلية، بخاصة بعد مؤتمر مدريد للسلام فى أوائل التسعينيات، شهدنا تناميا فى التيار الداعى إلى تحويل الحديث عن العالم العربى وآخرين إلى حديث عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التسمية التى استخدمت فى توصيف الجهود المعنية بمساعى التنمية الاقتصادية المستقبلية المترتبة على السلام العربى الإسرائيلى، بما يتماشى مع توجه تل أبيب، وانسجاما كذلك مع التوجهات الإيرانية، التى لم تكن جزءا من عملية السلام، بل كانت معارضة لها.
وفى ذلك وجدنا تلامسا غير مقصود بين تفتيت عربى ذاتى نتيجة للركود السياسى والفكرى، نحن مسئولون عنه فى المقام الأول، ودعوات ومحاولات أطراف غير عربية فى الشرق الأوسط وغيرها للحد من التوافق العربى، لأنه من الأسهل التعامل مع الدول العربية بشكل فردى مقارنة بالتعامل معها كليا كمجموعة سياسية.
ومع تنامى الفجوة بين الخطاب والواقع العربيين وتدنى المصداقية العربية، ظهرت منذ القرن الماضى دعوات إلى الانعزالية العربية والتركيز على الأولويات الوطنية أو شبه الإقليمية. وهو تيار بدأ علانية فى شمال الوطن العربى قبل الانتقال إلى المغرب والخليج، ويتنامى الآن بشكل متزايد فى كثير من الدول العربية، بعضه بإجراءات وتصريحات علنية، وفى البعض الآخر بالاكتفاء بتكرار المواقف التقليدية الثابتة من دون العمل أو الاجتهاد حقا لتحقيقها، وهى توجهات سطحية لا أتفق معها، لأن الأولوية للمصالح الوطنية المباشرة دائما وسيظل الأمر كذلك، إنما من مصلحة الدول العربية جميع الحفاظ على الكيان السياسى العربى، مع تطوير وتقويم الخطاب العربى وسياستنا، بحيث تكون أكثر واقعية واستجابة لطموحات الشعوب، من دون أن نسلب حقوق الآخرين فى عالمنا العربى، أو نحمل الأجيال المقبلة أخطاء الماضى والمواءمات المعاصرة الضاغطة. وفى اعتقادى، فإن من أهم سبل تحقيق ذلك الحفاظ على الهوية العربية وما يتوفر من نقاط التقاء بيننا، وهى كثيرة، من خلال المزيد من التعاون العربى وتجنب ادعاء الكمال والتطابق غير المتوفر فى جميع المواقف العربية.