مصطفى الفقى يكتب: المشروعان الدينى والعروبى
تحرك المشروعان فى توازٍ على امتداد القرن العشرين، فكانت إرهاصات المشروع القومى هى تلك الكتابات المبكرة لمفكرى الشام فى بلادهم وفى المهجر والتبشير بالفكرة القومية والدعوة إلى تكريس العروبة فى أقطارها، وقد اعتمد أصحاب هذه الفكرة على العامل الثقافى بالدرجة الأولى، خصوصا أن نسبة لا بأس بها منهم كانوا من مسيحيى الشام، لذلك كان لجوؤهم إلى المشروع القومى توجها هروبيا من متاعب المشروع الدينى الذى يفرق بين العرب ويقسم الناس وفقا للأديان والطوائف، ويؤدى فى النهاية إلى تمزيق وحدة الأمة.
لقد حقق العروبيون نجاحا واضحا فى القرن التاسع عشر، ولكن القرن العشرين كان يحمل فى طياته دعوة خطيرة تمثلت فى فكر الشيخ حسن البنا بمدينة الإسماعيلية عام 1928؛ حيث وُلد المشروع الإسلامى محصلة لاجتهادات العلماء الكبار من أمثال الكواكبى وشكيب أرسلان، بل والشيخ محمد رشيد رضا، التلميذ المباشر لمحمد عبده، الذى خرج عن سياقه وجنح إلى شىء من التطرف لم يكن يرضى به إمام مجدد، وبميلاد المشروع الإسلامى.
بعد سقوط الخلافة العثمانية ببضع سنوات أصبحنا نواجه وضعا مختلفا تماما، خصوصا أن شعارات التحرر الوطنى ورفض الوجود الأجنبى ارتبطت فى معظمها بالمشروع الدينى مثلما كان الأمر فى مصر، الذى جسده عرابى ومصطفى كامل، وكلاهما كان يحظى بمباركة الخلافة الإسلامية العثمانية حينذاك، بينما كان الأمر مختلفا فى الشام الكبير، فكانت حركة التحرر الوطنى موجهة ضد الأتراك المسلمين، وكان من الطبيعى أن تعتصم بالعروبة، وأن ترفعها شعارا لا تهاون فيه، لذلك فإننا نقول بارتياح إن الحركة الوطنية المصرية لم تصبح خالصة لوجه الله والوطن إلا فى أجواء عام 1919 عندما ارتفع شعار مصر للمصريين، وخرجت الحركة الوطنية من رحم السلطنة العثمانية، وأصبحت دعوة رائدة فى المنطقة العربية كلها. صحيح أنها لم تكن واضحة الملامح العروبية، ولكنها كانت مستقلة عن المشروع الإسلامى إلى حد كبير، ولذلك تنازع المنطقة المشروعين معا، المشروع العروبى الذى انطلق من الشام، ودعنا نسميه المشروع القومى، ولكن ظلت المواجهة مع المشروع الدينى الإسلامى الذى انطلق من مصر قبل الفترة الليبرالية التى بدأت بعد إعلان 28 فبراير عام 1922 واستقلال المملكة المصرية تحت دستور حديث ومتميز هو دستور عام 1923، والآن دعنا نناقش بعض الاعتبارات المتصلة بالعلاقة بين المشروعين القومى والدينى فى المنطقة العربية:
أولا، ما أكثر المؤتمرات الجامعة من مختلف الدول العربية التى سعت لإيجاد حلول توفيقية وتحديد منطقة الوسط بين المشروعين، وللأسف فقد غلبت على هذه المحاولات تيارات المصالح الشخصية والشعارات المرحلية، وبدت وكأنها محاولات تلفيقية وليست إنجازات توفيقية، خصوصا أن الفارق بينهما من الناحية الأيديولوجية كبير، بل يزداد اتساعا كلما تصاعدت لهجة العنف لدى دُعاة المشروع الإسلامى مع مخاوف مشروعة لدى الأقليات غير المسلمة فى المنطقة، خصوصا بعد جرائم داعش والعدوان على المقدسات العربية والاستهانة بالمشاعر القومية، ولذلك فإننا نزعم أن الدمج بين التيارين والخلط بين المشروعين لا يعبر عن الواقع ولا يؤدى إلى نتائج إيجابية على الإطلاق.
ثانيا، حظى المشروع الإسلامى فى القرنين التاسع عشر والعشرين بقدر من الحماس والتأييد، ولكن ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة والربط بين العنف والمشروع الدينى أدى ذلك كله إلى مقاومة عنيفة ضد المشروع الدينى لما يحمل فى طياته من نوايا غير مفهومة ومقاصد غامضة، فليس كل العرب مسلمين، كما أنه ليس كل المسلمين عربا، فالأمر يحتاج إلى تفرقة جامعة توضح الفارق بين الأمرين، كما أن ممارسات التنظيمات الدموية من أمثال القاعدة وداعش وغيرهما من تلك التيارات التى تلطخت أيديها بالدماء أدت إلى نتيجة هى مزيد من الحذر تجاه المشروع الإسلامى ورغبة قوية للاعتصام بالمشروع القومى والاحتماء بالعروبة رغم كل ما يعتريها من أزمات، بل وإخفاقات.
ثالثا، تُعتبر الهزيمة التى مُنيت بها الدول العربية فى نكسة عام 1967 نقطة تحول فاصل؛ إذ توهم كثير من العرب أن الهزيمة جاءت لأننا ابتعدنا عن الله وتحدثنا عن الاشتراكية العلمية وارتبطنا بروسيا السوفيتية، ولقد كان ذلك بالتأكيد توصيفا قصير النظر فى أحداث تلك الفترة، ولقد بلغ الأمر أن طلب مستشارو عبدالناصر منه أن يكون أول ظهور له بعد هزيمة عام 1967 بأيام قليلة هو ظهور يرتبط بمناسبة دينية، كما أن الدولة المصرية روجت وقتها لظهور السيدة العذراء فوق كنيسة الزيتون لأن الدولة كانت تريد أن تستعيد الثقة فى المشروع الدينى بعد الهزيمة التى جرت كذلك فإن التيارات الليبرالية والقوى القومية لم تكن قادرة فى ذلك الوقت على الصمود القوى ضد نكسة يونيو وآثارها الضخمة، لذلك استسلمت بعض الأنظمة للمشروع الإسلامى، وكان من ضمنها النظام المصرى فى ظل الرئيس الراحل أنور السادات، حيث توهم أن الإخوان المسلمين قادرون على ضرب فلول اليسار وبقايا الناصرية، وكانت النتيجة هى تغلغل الجماعات الإسلامية فى مرافق الدولة، وتنامى الظاهرة السلفية، والتمهيد لوصول الإخوان إلى الحكم كما حدث عام 2012.
رابعا: لا بد أن نعترف أن المشروع الإسلامى امتلك من السهولة فى الانتشار واليُسر فى الوصول إلى كل الناس على اعتبار أن الشعار الدينى مرتبط بمفهوم الإيمان ويصل إلى القلب مباشرة، فكانت النتيجة هى تعاظم دور جماعة الإخوان المسلمين الذين تملقوا الملك فاروق، ثم تعاونوا مع ثوار يوليو، وظل دورهم الغامض مؤثرا فى مسرح الحياة السياسية المصرية، بل والعربية الإسلامية أيضا.
خامسا: إن المشروع الإسرائيلى قد امتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن، ولكن المشروع الإسلامى بدأ من ثلاثينيات القرن العشرين حتى الآن، ولم يكتب له الإخفاق إلا بضربة شعبية مصرية عندما خرجت الملايين إلى الشوارع تعلن رفضها لحكم الإخوان والتحالف المرتقب بينها وبين الزعامة التركية لأردوغان وبعض النظم العربية المعادية للقاهرة، وفى ظنى أن ما جرى عام 2013 قد أدى إلى تغيير الخريطة السياسية، لا فى مصر والعالم العربى وحدهما، ولكن فى المنطقة بأسرها، ونسف مشروعا أمميا يتبناه رجب طيب أردوغان فى ظل أوهام السلطنة العثمانية والسيطرة التركية على المشرق العربى وشرق المتوسط والبلقان. إنها أضغاث أحلام ومجموعة أوهام ما زال الأتراك يعيشون عليها حتى الآن فى ظل تدخل من الجانب الآخر، حيث تسعى إيران إلى السيطرة على البوابة الشرقية للعالم العربى وزرع نفوذها فى كل مكان مُستترة وراء شعارات الثورة الإسلامية التى جرت عام 1979.
إن المشروعين الدينى والقومى يظلان على طرفى النقيض، ويلعبان دورا مؤثرا فى الحياة السياسية، ولا يتوقفان عن التأثير فى مجريات الأحداث وطبائع الأمور، ولا شك أن المشروع القومى فى النهاية هو الأولى بالرعاية؛ لأنه تعبير ثقافى عن هوية الأمة وموجز لتاريخها الطويل.
نقلا عن اندبندنت عربية
نقلا عن اندبندنت عربية