حسين عبد الغني يكتب: هل يوجد «مرشد أعلى» للتيار الناصري؟
عندما بدأت طلائع التيار الناصري في الظهور، كان جمال عبد الناصر قد توفي إلى رحمة الله قبلها بعامين تقريبا، وكانت المجموعة الأقرب إليه غائبة في السجون -منذ نحو عام ونصف- بأحكام قاسية وطويلة في قضية سياسية بالأساس، وهي قضية ١٥ مايو ١٩٧١ التي تسمى حتى الآن زورا في التاريخ المدرسي باسم قضية «مراكز القوى».
في عام 1972، اندلعت مظاهرات الحركة الطلابية ضد تلكؤ الرئيس الراحل أنور السادات في اتخاذ قرار الحرب ضد العدوان الإسرائيلي، الدفعة الأولى من طلائع التيار الناصري بقيادة رئيس اتحاد طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية محمد السعيد أدريس، شاركت الحركة الطلابية الكبرى التي كان لواء القيادة فيها معقودا للقيادات الطلابية الماركسية ومنهم أحمد عبد الله رزة وزين العابدين فؤاد وأحمد بهاء شعبان، في تلك المظاهرات.
في غضون 3 سنوات، كان هذا التيار الشاب قد مثل دعما هائلا لسيطرة اليسار على الحركة الطلابية في كل جامعات مصر، وأصبح الشريك الأكبر في القيادة مع الماركسيين بعد انتشار أندية الفكر الناصري والنوادي السياسية الناصرية، وبعد تمكن ممثليه من الحصول على مواقع مركزية في مجالس اتحادات الطلاب بما فيها اتحاد طلاب الجمهورية.
وهو نفوذ تراجع بعد أن مكّن احتضان السادات للتيار الإسلامي بهدف ضرب الناصريين والشيوعيين، من جعل هذا التيار يستولي على قيادة الاتحادات الطلابية في الربع الأخير من السبعينات.
بعبارة أخرى، ظهرت الحركة الناصرية وتطورت بدون أي دور على الإطلاق لنظام عبد الناصر ورجاله ومؤسساته، فكان ذلك من أحد أسباب ولادتها ولادة نضالية بعيدة عن الدولة. كما أنيطت الأدوار القيادية فيها وبسرعة لشباب من الطبقة الوسطي والفقيرة، ولم يكن أغلبهم قد انتمى إلى منظمات عبد الناصر الشعبية مثل منظمة الشباب أو الطليعية مثل التنظيم الطليعي.
الأهم من ذلك هو أن هذا التيار الجديد تعامل مع المشروع الناصري من البداية باعتباره ميدانا مفتوحا للتطوير الفكري والسياسي والتنظيمي، وليس ايدلوجية متكاملة مغلقة فتفاعلوا بقوة وبدون عُقد منذ البداية مع المنهج والتيار الماركسي ولم يجدوا أي صعوبة لديهم في تبني الصراع الطبقي بحذافيره والطموح لمجتمع اشتراكي كامل.
كما انفتحوا على مصادر الفكر القومي المختلفة ومفكريه القدامي والمحدثين، وتجاوزوا بصورة أو بأخرى حالة الوقوف عند مرارة التجربة مع البعثين (العراقي والسوري) خاصة الأخير أثناء الوحدة مع سوريا وما تلاها.
7 أو ٨ سنوات تقريبا، وهناك تيار يطور أفكار الناصرية، بما يؤكد هويتها اليسارية الراديكالية من ناحية، وانتمائها القومي الذي يرتكز على الوعاء الحضاري العربي الإسلامي من ناحية أخرى، ويطور أفكارها كذلك لتتلائم مع مرحلة الخروج من الدولة إلى الشارع، وليسمح لنفسه بردود ومواقف سياسية تساعده علي مواجهة الانقلاب اليميني من داخل نظام يوليو نفسه وبيد خليفة عبد الناصر لا غيره.
٧ أو ٨ سنوات تقريبا، وهناك حركة سياسية وجماهيرية صاعدة تنتقل من حالة السيولة إلى حالة التنظيم، ومن حالة الانتماء العاطفي لـ«أهم زعيم عربي منذ صلاح الدين الأيوبي ولتجربته التي أنصفت الفقراء وفتحت أبواب التصنيع» إلى حالة البناء العقائدي ببرامج تثقيف منهجية بمستويات كادر متدرجة.
في هذه السنوات السبع أو الثمانية أصبح هؤلاء القادة الجدد مع رفاقهم الماركسيين ضيوفا دائمة على سجون السادات، وقادة متشاركين لجبهة اليسار التي صاغت بعض أفضل أدبيات جبهة اليسار المصري طلابيا وعماليا، في صورة بيانات ووثائق مشتركة خاصة في جامعة القاهرة بين نادي الفكر الناصري ونادي الفكر الاشتراكي، وفي جامعة عين شمس بين النادي السياسيي والمجموعات الماركسية هناك، لهذا لم يكن غريبا أن يكونا هما التياران الوحيدان القادران علي تطوير وإلي حد ما تنظيم وقيادة الخروج العظيم للجماهير المصرية في أعظم انتفاضة شعبية مصرية في عهد السادات في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، وبالتالي أن يشكلوا الأغلبية الساحقة للمعتقلين بعدها.
في أقل من عقد من الزمان، تمكن شباب لا علاقة لهم بنظام عبد الناصر ودولة يوليو، أن يجعلوا المشروع حيا متجددا لا يموت مع موت صاحبه، بل وأن يحولوه إلي تيار سياسي -حركيا وتنظيميا، مناضلا وليس سلطويا-، تفاعلت معه وتماهت معه طلائع ناصرية في كل العالم العربي من موريتانيا الي اليمن.
عقد تقريبا، يكافح فيه شباب أكبرهم لم يتخط الثلاثين دون وصاية من أحد أو تفويض من أحد أو دعم مادي أو معنوي من أي نوع من أي أحد له علاقة بدولة عبد الناصر في مصر أو خارجها.
وعندما بدأ الأفراج التدريجي من قبل السادات عن قيادات الدولة الناصرية السياسية والعسكرية، ذهلوا بما وجدوه من تيار شعبي ووعي فكري ومهارات سياسية وانتخابية اكتسبها هؤلاء الشباب من تجربتهم الخاصة، ومن الندية التي يتعاملون بها مع التيارات الأخري وأيضا من الانفتاح والتنسيق القائم بينهم وبين هذه التيارات.
بعبارة أوضح فإن ناصر الذي وضع تقليدا سياسيا لدولة حداثية -انقلب عليه السادات جزئيا بإعطاء زوجته دورا سياسيا، وانقلب عليه مبارك كاملا بالتخطيط لتوريث ابنه- وهو بقاء أسرته في الظل تماما، ومنع أي فرد فيها من الحصول على امتياز ولو صغير، لم يدع مجالا لتوريث أولاده أو إخوته دورا سياسيا، وبالتالي لم يكن لأسرته أي دور في نشاة وانتشار التيار الناصري ألا بالتشجيع والمودة الأخوية، خاصة من الابن الأكبر خالد عبد الناصر بصداقته لاحقا مع رموز من جيل الشاب. كذلك لم تترك محنة السجن لرجال عبد الناصر الفرصة لأن يلعبوا أي دور من أي نوع في تطور التيار الناصري.
وعندما خرجوا وجدوا ثمرة سياسية ناضجة، سعت للتحول إلى حزب ناصري تندمج فيه الأجيال الجديدة مع الأجيال القديمة ولكن الصدام غلب على الوحدة، ولم تنسجم أساليب وتقاليد الشارع والاندفاع مع أساليب وتقاليد الدولة والحرص، وهو صدام أدي تدريجيا مع عوامل أخرى إلى انحسار كامل للزخم الجماهيري مازال مستمرا حتى اليوم.
وحتى عندما اتسع أفق الجيل المؤسس للناصرية النضالية ليتزود فكريا من عقول ارتبطت بمشروع عبد الناصر لم يكن رجال الدولة من «مجموعة مايو» هم المؤثرون فيهم لأنهم كانوا ببساطة رجال سياسة وحركة وعمل تنفيذي وليسوا مفكرين، ولكن كان المؤثر عليهم ثلاثة عقول مع تفاوت في الدرجة والقرب وهم:
• الأستاذ محمد عودة: كان الأقرب وجدانيا، والأسرع احتضانا لهذا الجيل الشاب ابتداءا من عام 1976.
• الأستاذ محمد حسنين هيكل خاصة بعد اعتقالات سبتمبر 1981.
• الأستاذ أحمد بهاء الدين.
كما تحاوروا وتفاعلوا بحماس، وإن اختلفوا معظم الوقت مع عقل آخر جبار، هو المحامي الدكتور عصمت سيف الدولة.
ساعد هذا الانفتاح على هذه العقول إلي الانفتاح التام علي أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان في تجاوز لجوانب الضعف في التجربة وتعميق للمشروع الفكري وربطه بحقائق وشباب عصره .
لقد مكنت هذه النشاة خارج وصاية الدولة وخارج وصاية أسرة ورجال الزعيم، هذا التيار الناصري – رغم كل خيباته وانقساماته ككل تيارات اليسار الآخري- من البقاء علي قيد الحياة – ضعيفا لكنه حيا-.
بعد اصطدام الجيلين في تجربة الحزب الناصري ظهرت من الجيل الجديد قيادات سياسية وبرلمانية وإعلامية وصحفية ونقابية، رفعوا سقف المعارضة في زمن مبارك -صحيفة العربي نموذجا-، وظل الناصريون تيار المعارضة النقابي المدني الأساسي في نقابات المحامين والصحفيين والمهندسين، وكان هذا التيار قادرا بتحالفات مع آخرين أن يزاحم وأحيانا يكسر التفوق والهيمنة الذي حققه التيار الإخواني في هذه النقابات في أغلب فترات عصر مبارك.
لقد مكّن إنعدام الوصاية والتوريث هذا التيار من أن يكون طرفا فاعلا في كل حركات الاحتجاج النقابي والسياسيي في عصر مبارك والتي مهدت تراكماتها لثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، فشاركوا في تأسيس وقيادة حركة كفاية الجبهوية ذات الطيف الواسع في دورات مختلفة، وتزعم أحد قيادييهم «كمال أبو عيطة» زخم النضال العمالي للنقابات المستقلة، وكانوا كأفراد جزءا مهما من تشكيل «الجمعية الوطنية للتغيير» التي تأسست في نهاية عهد مبارك ولعبت دورا هاما في تنسيق مهام الميدان في الـ١٨ يوما التي انتهت بعزل الرئيس الراحل حسني مبارك، كما حافظ تلاميذهم علي استمرار أندية الفكر الناصري في الجامعات، حتى أصبح هذا الجيل الثاني من التيار الناصري عنصرا أساسيا في تشكيل «ائتلاف شباب الثورة» بنماذج مثل حسام مؤنس وغيره.
وبعد ثورة يناير حصل أحد قيادييهم «حمدين صباحي»، على المركز الثالث في أول انتخابات رئاسية حائزا علي ما يقرب من خمسة ملايين صوت.
وحتى في انتخابات برلمان مرحلة ما بعد دستور ٢٠١٤ شكل النواب الشباب من الناصريين الجسم الرئيسي لقوة المعارضة «تكتل 25/30»، صغيرة العدد المعادية للفاشية الدينية ولكن في نفس الوقت الرافضة لعودة نظام مبارك.
أخفقت كل محاولات بعض رجال دولة يوليو مهما كان قربهم الشخصي من عبد الناصر لتقديم أنفسهم نفسه كأباء روحيين لهذا التيار وذلك لسببين:
الأول: أنه ليس هناك فرصة، على الأقل في الوقت الراهن، لأن يقدم شخص ما ضمانة لأي جهة داخلية أو خارجية، أن بوسعه إلزام التيار الناصري بموقف معين، ذلك أن هذا التيار ككل قوى اليسار المصري مفكك ومنقسم وضعيف ولا وزن جماهيري حقيقي له في الوقت الراهن.
الثاني: أنه رغم ضعف هذا التيار وتفككه وانقسامه، يجد الاتجاه الرئيسي فيه أنه من الصعب عليه أن يتخلي عن الطابع النضالي المعارض الذي اكتسبه إبان سنوات حكم السادات ومبارك.
أخيرا إن هذا التيار الذي نشأ على عدم تسليم نفسه وعقله حتى لقيادات فكرية بحجم عودة وهيكل وبهاء الدين لا يمكن أن يتنازل عن استقلاليته وحيويته الوطنية لأى طرف آخر.
في عام 1972، اندلعت مظاهرات الحركة الطلابية ضد تلكؤ الرئيس الراحل أنور السادات في اتخاذ قرار الحرب ضد العدوان الإسرائيلي، الدفعة الأولى من طلائع التيار الناصري بقيادة رئيس اتحاد طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية محمد السعيد أدريس، شاركت الحركة الطلابية الكبرى التي كان لواء القيادة فيها معقودا للقيادات الطلابية الماركسية ومنهم أحمد عبد الله رزة وزين العابدين فؤاد وأحمد بهاء شعبان، في تلك المظاهرات.