مصطفى الفقي يكتب: الإسلام المفترى عليه
تشدد تياراته السياسية وعنف التنظيمات الإرهابية أسهما فى التجنى على جوهره الحنيف
أثارت العاصفة الأخيرة التى هبت رياحها من الدولة الفرنسية مشاعر متباينة وأفكارا مختلفة لدى المسلمين وغير المسلمين، تجاه الإسلام دينا وأمة وأفرادا، فالإسلام يمثل لدى أصحاب الديانات الإبراهيمية الثلاث كلمة الله الأخيرة إلى البشر من خلال نبى الإسلام محمد، وتتمة لرسالات سبقته وتأكيدا لمعنى التفرد الإلهى بالخلق، وأحقيته سبحانه فى أن تعبده مخلوقاته وتسبح باسمه وحمده، فالرسالة المحمدية شاملة وتتجه إلى الإنسانية جمعاء من دون تفرقة بسبب عقيدة أو لون أو جنس، لذلك انتشرت فى القارتين الآسيوية والأفريقية وأجزاء من القارة الأوروبية، وكان انتشارها فى العالم كاسحا وسريعا مثل انتشار النار فى الهشيم.
وعندما تكونت جاليات مسلمة فى دول ذات أغلبية غير مسلمة ظهرت المشكلات، خصوصا خلال العقود الأخيرة التى أدت إلى معاناة شديدة للمسلمين فى تلك البلاد، فمرة تثور أزمات بسبب الرداء الإسلامى، بخاصة الحجاب، ومرات بسبب الطقوس الإسلامية من صلاة وصيام وصولا إلى نحر الأضاحى، فضلا عما لحق بالإسلام ظلما خلال الـ 50 عاما الأخيرة، من افتراءات وأكاذيب وادعاءات قامت على مفهوم خاطئ نتيجة التعميم الأعمى، وانعدام القدرة على التفرقة بين الإسلام والسواد الأعظم المعتدل من أتباعه، وبعض الخوارج عليه من عناصر اعتمدت العنف أسلوبا، واختارت طريقا يعادى الإسلام فى باطنه ويرفع شعاراته فى ظاهره.
هكذا بدأ الأغلب الأعم من المسلمين فى دفع فاتورة باهظة لفزاعة جديدة تحت مسمى «الإسلاموفوبيا»، بكل النتائج السلبية التى لحقت بذلك من جرائم وتجاوزات تجاه ذلك الدين الحنيف وأتباعه فى أنحاء الدنيا، ولقد كانت الكلمات الصادمة من الرئيس الفرنسى ماكرون نموذجا لسوء الفهم لدى من لا يعرفون حقيقة الإسلام، بينما هناك شخصيات عالمية وكتابات راقية أنصفت الإسلام وأعطته قدره، وأتذكر هنا المحاضرة التاريخية التى ألقاها الأمير تشارلز ولى عهد بريطانيا فى جامعة أكسفورد مطلع تسعينيات القرن الماضى، والتى أنصف فيها الإسلام بالقول الصادق والحجة السليمة والأمثلة الأمينة، وأظنه كررها فى صحن الأزهر الشريف بعد ذلك بأكثر من عقد كامل.
ولقد سألته شخصيا أثناء لقاء معه فى الجامعة البريطانية فى مصر، التى تشرفت برئاستها خلال سنواتها الأولى، قائلا، ترى يا سمو الأمير ما الذى شدك إلى دراسة الإسلام وفهمه بإنصاف وعدالة؟ فأجاب بأن الأمر بدأ بإعجابه بالعمارة الإسلامية وطرز المساجد فشدته القباب والمآذن، ومن هنا بدأت قراءاته المكثفة حول الإسلام، واستعان فى ذلك بعالم مصرى جليل وهو زكى بدوى رحمه الله، مدير المركز الإسلامى فى لندن، إذ بدأ ولى عهد بريطانيا يفهم حقيقة الإسلام من دون تزييف أو مغالطة، وشأن الأمير البريطانى شأن كل من يدرس الإسلام على حقيقته بعيدا من الضجيج والصراخ والادعاءات المغرضة، والتراشق المتبادل أحيانا بين أتباع الديانات، ويهمنى هنا أن أرصد بعض الظواهر فى ما يلى:
أولا ظل الإسلام لما يقرب من 14 قرنا يعيش فى سلام نسبى مع الديانات الأخرى، ولكن الصحوة الإسلامية مطلع القرن الماضى ثم ظهور الإسلام السياسى بعد ذلك، أديا إلى حال قلق لدى الطرف الآخر، خصوصا أن ذلك تواكب بعدها مع سقوط الكتلة الشيوعية واختفاء الخطر الأحمر الذى كان الفزاعة التى أدت إلى التعاون بين الغرب والإسلام، إذ حل خطر الإسلام بديلا عن الشيوعية فى الاستهداف والتآمر لدى مرضى العقول وأصحاب الأوهام فى الغرب، بل وفى مناطق أخرى من العالم، وانتهى الأمر بمواجهة غير مبررة بين أتباع الإسلام فى جانب، والعالم كله فى جانب آخر، ولا زلنا نتذكر كلمة الرئيس الأميركى الأسبق أيزنهاور عند افتتاح المسجد الإسلامى فى واشنطن، حين كان مدير المركز الشيخ عبدالرحمن بيصار، الذى أصبح شيخا للأزهر بعد ذلك بسنوات، ويومها تحدث رئيس الولايات المتحدة الأميركية بشكل إيجابى عن الإسلام والمسلمين.
ثانيا، يجب أن نفكر نحن العرب بانعكاس الصورة السلبية للإسلام علينا، فالظلم يأتينا مزدوجا متجها نحو الإسلام مرة ونحو العروبة مرة أخرى، خصوصا وأنهما صنوان متكاملان، فلقد نزل القرآن عربيا وكان نبيه العظيم عربيا أيضا، ومن هنا اقترنت صورة العربى بكل السلبيات الظالمة التى تلصق بالإسلام والمسلمين، وأتذكر أن البعض فى الغرب سُئل عن صورة العربى فى ذهنه، فكانت إجابته أنها تبدأ بحرف الباء فى الأبجدية اللاتينية، فالعربى فى خيالهم هو الملياردير الإرهابى الذى يهوى الملذات ويعيش على البداوة ويساوم فى السياسة بلغة البازار، وهذا النمط الذهنى لشخصية العربى أثر كثيرا على دوره فى العالم المعاصر، وعزله بشكل أو بآخر عن روح العصر وتجلياته.
الإسلام السياسى وإسرائيل
ثالثا لا شك أن ميلاد الإسلام السياسى مع ظهور حركة الإخوان المسلمين عام 1928 ترك أثرا سلبيا فى الجانب الآخر، نتيجة توالد المخاوف وتراكم القلق من تنامى تلك الظاهرة الدينية التى تسعى إلى حيازة الحكم والسيطرة على كل ما يمكن أن تحصل عليه، ولو على حساب الإسلام وجوهر الدعوة وصفاء العقيدة.
رابعا، لقد كان ظهور دولة إسرائيل نتاجا للمشروع الذى بدأ فى بازل بسويسرا على يد هرتزل نهاية القرن الـ 19 مقدمة لاحتدام الصراع، لأن المسلمين رأوا أن قضية القدس ليست سياسية فقط، لكنها دينية أيضا، وانتهى الأمر إلى محاولة تديين الصراع تحت مسمى كبير وجذاب هو الجهاد، وكم نشعر نحن المسلمين بالأسى والحزن عندما يستخدم الخصوم عبارة الإرهاب الإسلامى لإلصاق الإسلام بالتطرف والتعصب والعنف، والإسلام من كل ذلك براء.
خامسا، ليس من شك فى أن الموجات الإرهابية التى اجتاحت العالم خلال العقود الأخيرة تركت بصماتها على صورة الإسلام فى مخيلة المواطن العادى خارج العالم الإسلامى، إذ أصبح يراه عدوا جديدا، لأنه وفى غياب العدو الحقيقى، فيمكن استبداله من خلال عملية صناعة عدو جديد بحيث يستمر الصراع وتظل الخلافات مسيطرة، حتى ولو كانت إقليمية الطابع وليست بالضرورة عالمية الانتشار، ومع ذلك نسمع الآن عن معاناة الأقليات الإسلامية فى الصين والفيليبين وميانمار وغيرها من الدول الآسيوية، مع بروز منظمات إرهابية حول التجمعات البشرية الإسلامية فى كل مكان.
إن الإسلام فى الحقيقة دين المساواة والتسامح وإعمال العقل، واحترام التفكير الذى أعتبره فريضة من فرائض ذلك الدين الوسطى المعتدل الذى يحترم الديانات الأخرى، ويتعايش مع غير المسلمين كما فعل نبيه العظيم خلال سنوات حياته، فقد كان يوازن بين الدعوة فى جانب والتسامح فى جانب آخر، وهو الذى قال للصحابة من حوله، أليست الجنازة لنفس بشرية؟ وذلك عندما سألوه لماذا وقف احتراما لجنازة تمر أمامه وهى ليهودي! فالإسلام دين عقل وحكمة وتسامح، وليس دين غلو وتشدد وعنف، ولذلك فإن صورته الحالية تؤكد لنا بحق أنه الإسلام المفترى عليه!
نقلا عن إندبندنت عربية