أخبار مصر

محمود محيي الدين يكتب: أنفاق وأنوار

مع تفاقم الأزمة الصحية المصاحبة لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ترى العالم وكأنه يتوغل فى أنفاق مظلمة يؤدى بعضها إلى بعض. ونحدد هذه الأنفاق فى خمسة: أولها، تزايد أعداد المصابين بفيروس «كوفيد ــ 19» بما يعتبره المختصون بداية لموجة جديدة؛ وثانيها، استمرار تدهور الأداء الاقتصادى بانكماش الناتج العالمى بنحو 5 فى المائة، مقارنة بالعام الماضى مع تراجع فى الاستثمار الأجنبى المباشر بنحو 40 فى المائة وانخفاض التجارة الدولية بما يقترب من 20 فى المائة وفقدان السياحة إيرادات تتراوح بين 60 فى المائة و80 فى المائة مقارنة بالعام الماضى؛ وثالثها زيادة المديونية العالمية إلى 258 تريليون دولار بما يعادل 335 فى المائة من الناتج المحلى العالمى؛ ورابعها استمرار تدنى الأداء فى مواجهة تغيرات المناخ وزيادة فجوة التمويل المطلوب لتحقيق للتنمية المستدامة بمقدار 70 فى المائة لتصل إلى 4.2 تريليون دولار؛ وخامسها تراجع مساندة منظومة التعاون الدولى متعدد الأطراف فى الوقت ذاته الذى يتزايد فيه الاحتياج إليها؛ إذ عانت منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية من تقويض لصلاحياتها وتجاوز آلياتها فى فض المنازعات وتنظيم قواعد التجارة الدولية باللجوء للحمائية ودخول فى نزاعات وحروب تجارية، كما تعرضت منظمة الصحة العالمية لهجوم عاتٍ على مصداقيتها.
ورغم الظلمة المعتمة فى هذه الأنفاق، فقد لاحت أنوار باعثة على الأمل فى الخروج منها، وإن تراوحت هذه الأنوار بين خافت بعيد ومبهر قريب للناظرين إليها:
أولا: نفق الأزمة الصحية وأضواء مبشرة تعجل بنهايتها: أثار الإعلان عن تطوير للقاح مضاد لفيروس كورونا حالة من الاستبشار أعادت الأمل فى قرب احتواء جائحة كورونا والسيطرة على معدلات تزايدها، خاصة مع تأكيد العلماء المطورين له من العاملين فى شركتى «فايزر» الأمريكية و«بيونتك» الألمانية، أن المرحلة الأخيرة من التجارب تؤكد فاعليته بأكثر من 90 فى المائة. ويحقق هذا الإعلان، الذى نوهت عنه مجلة «الإكونوميست» على غلافها بصورة مضيئة للقاح فى نهاية نفق، نصرين علميين جديدين بين سرعة غير مسبوقة فى تطوير اللقاح، وفاعلية عالية مقارنة باللقاحات السابق تطويرها للتعامل مع أوبئة أخرى. والعبرة الآن بتأمين وصول هذا اللقاح، وغيره من اللقاحات التى أوشكت أن تصل إلى اعتماد الدوائر الصحية إلى جموع الناس، بما يتطلبه ذلك من تغطية فجوة تمويل دعم نشر اللقاح حول العالم؛ فما تم تدبيره 5 مليارات دولار والمطلوب 28 مليارا أخرى، وفقا لما أعلنته منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضى.
ولنا فى التعامل مع وباء إيبولا عبرة؛ إذ تزامن اعتماد لقاح إيرفيبو المضاد لفيروس إيبولا فى شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضى، بعد سنوات من ظهور الوباء فى خمس دول إفريقية، طرح أسئلة مهمة لخصها الطبيب النيجيرى إيفينى إنسوفور فى خمسة أراها ذات أهمية كبرى لتوفير اللقاح، خصوصا فى الدول النامية. أولها أهمية تدعيم النظم الصحية وقدرتها على الكشف المبكر عن المرض ومنع انتشاره والتصدى له؛ إذ تعانى النظم الصحية فى الدول النامية من تراجع فى «مقياس الاستعداد» الذى يجب ألا يقل عن 80 فى المائة، وفقا لإرشادات منظمة الصحة العالمية، وهو لا يتجاوز فى واقع الأمر 50 فى المائة فى إفريقيا جنوب الصحراء. ثانى هذه الأسئلة يتمثل فى مدى توافر الأمن والاستقرار فى عدد من الدول بما يمكن الطواقم الطبية من القيام بعملها؛ فقد تعرض الكثير من الأطباء والممرضين للقتل والأذى أثناء قيامهم بالعمل فى مجتمعات افتقدت الأمن. ثالث هذه الأمور يتعلق بشرح فائدة اللقاح وعدم انتظار انتشار الإصابة وتفشيها ليقبل الناس عليه؛ وقد رأينا مظاهرات ضد التطعيم لأسباب مختلفة، منها أن هناك من يعتقد بأن هذا الوباء وما يدور حوله ما هو إلا مؤامرة نسجت خيوطها بليل لإلهاء الناس أو ابتزازهم؛ وهو ما يستدعى نشر الوعى بالحقائق من قبل أهل العلم والاختصاص. رابع هذه الأمور يتمثل فيما أشرت إليه فى مقال سابق عن افتقاد 40 فى المائة من المراكز والوحدات الصحية فى دول نامية للمياه النقية، وحرمان 35 فى المائة من المطهرات والصابون لغسل الأيدى؛ بما يعرض المترددين عليها والعاملين لمخاطر العدوى ونشرها. وأضيف إلى ما سبق، أن هناك متطلبات لوجيستية وتخزينية يتعذر توفيرها فى ربوع الدول النامية لتخزين اللقاح عند درجة حرارة تقل عن 70 درجة مئوية تحت الصفر فى بلدان محرومة من الكهرباء فى قراها وأحيائها، ناهيك عن تكلفة التبريد تخزينا ونقلا. قد يمنح هذا فرصة أكبر فى المنافسة للقاحات قيد الانتهاء من آخر مراحل اعتمادها، مثل لقاح شركة «موديرنا» الأمريكية، فضلا عما يتردد عن قرب اعتماد لقاحات صينية وروسية مطورة.
ثانيا: نفق الديون وأضواء للدول الأكثر فقرا؛ بعد معاناة الدول النامية الأكثر فقرا ومنخفضة الدخل من أعباء الديون وعدم قدرتها على سداد أقساطها مع تبعات أزمة «كورونا» من نقصان فى الموارد وزيادة النفقات ظهرت مبادرات تبنتها مجموعة العشرين، منها تأجيل سداد الأقساط ومد فترة هذا التأجيل حتى شهر يونيو (حزيران) من العام المقبل. ثم جاءت المطالبة بضرورة إعادة الهيكلة للديون المتراكمة حالة بحالة، خاصة مع ارتفاع ديون 73 دولة فقيرة بمقدار 10 فى المائة لتصل إلى 740 مليار دولار فى الشهر الماضى.
وفى الأسبوع الماضى اتفق وزراء مجموعة العشرين فى إطار الرئاسة السعودية الحالية على إطار عمل مشترك بمبادئ معلنة متوافقة مع قواعد نادى باريس للتفاوض مع الدول الفقيرة الراغبة فى تخفيض ديونها، ويفتح هذا الاتفاق المجال لدخول الدول الدائنة من غير الأعضاء فى نادى باريس فى هذا الإطار. يبقى أن دولا نامية أخرى متوسطة الدخل تتعرض للضرر ذاته، لكنها غير مشمولة فى هذا الاتفاق، كما أن هذا الاتفاق غير ملزم للدائنين من القطاع الخاص، سواء من البنوك أو حملة السندات، بما يشير إلى عدم اكتمال إطار إعادة الهيكلة للمديونية الدولية بعد، وأن البنيان المالى العالمى ما زال فى حاجة إلى تدعيم وتطوير.
ثالثا، أنفاق الاقتصاد وأنوار أخرى متباينة القوة والأثر. نترقب مع اقتراب بداية عام جديد ما ستحققه الإدارة الأميركية الجديدة وتفعيلها أولويات حددتها عن مساندة جهود مكافحة تغيرات المناخ والعودة لاتفاق باريس وضخها تريليونين من الدولارات فى مشروعات استثمارية فى البنية الأساسية متوافقة مع هذا الاتفاق. وفى هذه الأثناء تبدأ المملكة المتحدة السنة الأولى حتى عام 2025 نحو تطبيق قواعد الإفصاح الملزم لمؤسساتها المالية والاقتصادية عن المخاطر المالية المرتبطة بتغيرات المناخ، مع زيادة متوقعة فى أعداد الدول التى ستتبع النهج ذاته بما سيغير من مسارات تمويل المشروعات، خاصة المتعلقة بالطاقة والبنية الأساسية والنقل.
كما تظهر بداية ضوء لما سيسفر عنه اختيار قيادة جديدة لمنظمة التجارة العالمية، متزامنة مع تفعيل أكبر اتفاق لتحرير التجارة تم توقيعه منذ أيام فى قمة استضافتها فيتنام لتجمع دول «آسيان» العشر مع الصين، واليابان، وكوريا، وأستراليا، ونيوزيلاندا؛ ليضيف 200 مليار دولار سنويا للاقتصاد العالمى.
وقبل انقضاء هذه السنة التى شهدت الجائحة يتوقع 100 مليون ممن حل بهم الفقر المدقع، ومعهم 250 مليون إنسان تعرضوا للجوع، و495 مليونا ممن فقدوا أعمالهم فى القطاع الرسمى وأضعاف عددهم فى القطاع غير الرسمى، يتوقعون ويستحقون المساندة لإخراجهم من فلك الفقر والجوع والبطالة. وفى هذا، فإن فى همة الدولة الوطنية واستثمارات مؤسساتها الخاصة والعامة، وتضامن المجتمع المحلى ومنظماته، لتفعيل الاقتصاد وآليات عمله وإنتاجه ما يغنى حتما عن انتظار معونات وهبات ومساعدات خارجية، قد تأتى أو تضل الطريق فى نفق من وعود لا تتحقق. فليس كل ضوء يلمع فى نهاية نفق نورا هاديا للخروج منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *