
نظرة على علاقات القاهرة وباريس: توافق على حل الأزمة الليبية ودفع استفزازت تركيا
العلاقات المصرية الفرنسية بين توافق الرؤى والشراكة الاستراتيجية
بالتزامن مع الزيارة الرسمية الهامة التي يجريها الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى باريس تلبية لدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نلقي الضوء على عدد من مجالات التعاون المتطور في السنوات الأخيرة، بين بلدين عريقين، تعود العلاقات المباشرة بينهما إلى قرنين ونصف من الزمان، ويستشرفان مستقبلا أفضل لشعبيهما، انطلاقا من الماضي المكلل بالتعاون المشترك والاستفادة المتبادلة والتنسيق البناء في حقول شتى، والموقع الريادي لمصر في محيطها العربي والأفريقي ولفرنسا في محيطها الأوروبي ودورها العالمي، والأهمية الكبرى للتواصل بينهما كقوتين فاعلتين مؤثرتين في منطقة البحر المتوسط.
وتأتي الزيارة في سياق الجهود المصرية لتوطيد العلاقات، وبحث سبل التعاون المشترك في القضايا محل الاهتمام بين الجانبين للتصدي للأزمات في منطقة الشرق الأوسط.
وتعد هذه الزيارة الرابعة منذ تولي الرئيس السيسي، السلطة في عام 2014؛ حيث تتناول بعض القضايا المثارة حاليا في مقدمتها الأزمة الليبية ومكافحة الإرهاب والتوتر المتصاعد في شرق المتوسط، ففضلا عن تطرق الرئيسين إلى القضية الفلسطينية والأزمة السياسية في لبنان.
وسيلتقي الرئيس “السيسي” خلال زيارته نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء جان كاستيكس، ووزير الخارجية جان إيف لودريان، وزيرة القوات المسلحة فلورانس بارلي، ورئيس الجمعية الوطنية ريتشارد فيران، ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، ورئيس بلدية باريس آن إيدالغو.
وتميزت العلاقات بين البلدين بالتعاون المشترك نتيجة تقارب مصالحهم الوطنية، وتوافقهم حول إدارة العديد من القضايا الراهنة، وبالرغم من المتغيرات الإقليمية والدولية التي عصفت بالنظام العالمي إلا أن العلاقات بين البلدين مازالت راسخة لكونها تستند على روابط تاريخية وحضارية وعلاقات الصداقة والثقة المتبادلة؛ حيث تنظر باريس إلى القاهرة باعتبارها دولة محورية في المنطقة وشريك استراتيجي مهم، يمكن التنسيق والتعاون معه في تسوية أزمات المنطقة، فيما تنظر القاهرة لباريس باعتبارها من أهم الدولة الأوروبية التي لعبت دوًرا بارًزا في التعاطي مع التحديات التي تشهدها المنطقة كقوى فاعلة من خلال أدوات منها تبني جهود الوساطة بين الأطراف المتنازعة لتقريب وجهات النظر بينهم وهو ما يتوافق مع ثوابت السياسة الخارجية المصرية التي ترتكز على عدد من المحددات تأتي على رأسها عدم التدخل والحفاظ على وحدة السيادة الوطنية لدول المنطقة.
وانعكس هذا الأمر على استمرارية العلاقات المصرية الفرنسية وتجسد في تقارب مواقفهم في العديد من القضايا على النحو التالي:
الأزمة الليبية
تلتزم البلدين بالحل السياسي السلمي، مؤكدين التمسك بوحدة الأراضي الليبية وسلامتها، ورفض التدخلات الخارجية من قبل أي قوى دولية تسعى إلى استغلال حالة عدم الاستقرار والفوضى الداخلية لخلق موطئ قدم لها يضر بمصالح الدولة الليبية ومقدراتها الوطنية، وهو ما تمثل في رفض كل من القاهرة وباريس التدخل التركي غير الشرعي في الشأن الليبي ودعمها حكومة “السراج” بالسلاح والمرتزقة.
وأوضح الرئيس السيسي أن “القاهرة لن تسمح بتجاوز خط سرت-الجفرة”، مؤكدا ضرورة بقاء ليبيا بعيدة عن سيطرة الميليشيات الإرهابية”، ومشدًدا على ضرورة وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع قائلا إن التقسيم مرفوض بأي شكل من الأشكال وذلك خلال لقائه مشايخ وأعيان القبائل الليبيبة في يوليو 2020.
وسبق ذلك إدانة مصر إعلان أنقرة توقيع مذكرتي تفاهم مع “السراج” في مجال التعاون الأمني والمجال البحري لكونها غير قانونية، ولا يمكن الاعتراف بها؛ حيث أوضحت وزارة الخارجية في بيان لها في نوفمبر 2019، أن توقيع مذكرتي تفاهم في مجالي التعاون الأمني والمناطق البحرية وفقا لما تم إعلانه هو غير شرعي ومن ثم لا يلزم ويؤثر على مصالح وحقوق أية أطراف ثالثة، ولا يترتب عليه أي تأثير على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط، ولا أثر له على منظومة تعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط”.
أما فرنسا التي رحبت بالجهود المصرية لحل الأزمة الليبية، فقد زادت من حدة لهجتها في إدانة النهج التركي في ليبيا الذي يعد انتهاكا لقرارات مجلس الأمن الدولي، واصفة إياها بـ”غير المقبول”، واتهمت أنقرة بتوريد الجهاديين من سوريا إلى ليبيا، وهو ما رفضته أنقرة ورد عليه وزير الخارجية التركي بأن فرنسا تلعب دوًرا “تدميًريا” في ليبيا، بالإضافة إلى رفض فرنسا الاتفاقيات المبرمة مع حكومة “السراج” لكونها باطلة قانونًيا، داعمًة سيادة قبرص واليونان على حدوديهما البحرية، وحذرت من أن تتحول المنطقة إلى “ملعب لطموحات” البعض، معلقة مشاركتها في عملية “حارس البحر” التابعة لحلف شمال الأطلسي رًدا على الانتهاكات التركية في ليبيا.
التوتر في شرق المتوسط:
ساهمت اكتشافات المواد الهيدروكربونية قبالة السواحل المصرية والقبرصية واليونانية والإسرائيلية في دفع تركيا إلى المنطقة بكل ثقلها لتكون جزء من تفاعلاتها، فضلا عن رغبتها في تعزيز دورها، وخلق منطقة نفوذ جديدة يمكن أن توظفها لخدمة أهدافها التوسعية وهو ما تجسد في تمركزها في ليبيا وإبرامها اتفاقيات غير قانونية رفضتها كل من مصر واليونان وقبرص بجانب فرنسا، بالإضافة إلى أعمالها الاستفزازية التي تجلت في إرسال سفن للتنقيب في المنطقة الاقتصادية لقبرص، وقبالة جزيرة كريت غير ُمكترسة للانتقادات والرفض الدولي لهذه التحركات غير المشروعة التي ُتمثل انتها ًكا للقانون البحري الدولي، وذلك لكي تستحوذ على أكبر قدر ممكن من أوراق الضغط للمناورة بها مع القوى الدولية الرافضة لهذه النهج الذي بالفعل يعد انتها ًكا لسيادة الدول المطلة على المتوسط.
في المقابل رفضت القاهرة التصرفات والتدابير التركية وسعت إلى حماية مصالحها في المنطقة من خلال إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في أغسطس 2020 مع اليونان للاستفادة من الثروات البحرية بكفاءة وفعالية، وهو ما لم توافق عليه الخارجية التركية زاعمًة أنه انتهاك لجرفها القاري، أما فرنسا فقد انتقدت بحدة النهج التركي وحفزت دول الاتحاد الأوروبي على ضرورة التصدي لهذه التحركات، وطلبت الانضمام رسمًيا إلى عضوية منتدى غاز شرق المتوسط -الذي تم تأسيسه في يناير 2019 ويأخذ من القاهرة مقًرا له، ويضم كل من مصر واليونان وقبرص وإسرائيل والأردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، ويهدف إلى إنشاء سوق للغاز في المنطقة ودعم مصر كمركز إقليمي للطاقة-كمراقب دائم، وذلك خالل الاجتماع الوزاري في يناير 2020.
بالإضافة إلى ذلك أجرت مصر تدريبات مشتركة مع كل من اليونان وقبرص وإيطاليا في 26 أغسطس، رًدا على الإصرار التركي على عدم التنازل عن تواجدها في المنطقة.
وذكرت وزارة الدفاع اليونانية أن “فرنسا وقبرص واليونان وإيطاليا اتفقت على نشر وجود مشترك في المنطقة في إطار مبادرة التعاون الرباعي”.
وتأتي الزيارة في سياق الجهود المصرية لتوطيد العلاقات، وبحث سبل التعاون المشترك في القضايا محل الاهتمام بين الجانبين للتصدي للأزمات في منطقة الشرق الأوسط.
