أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: أين المغرب العربي؟

الدول المغاربية انصرفت عن هموم المشرق بسبب سيطرة التحديات الداخلية ورغبة قياداتها فى التركيز عليها

اندمجت دول المغرب مع نظيرتها فى المشرق خلال العقود الخمسة الأخيرة على نحو غير مسبوق، فعندما كانت القضية الجزائرية قضية قومية لكل الدول العربية، اتجهت الأنظار إلى المغرب العربى وبسالة شعوبه فى مواجهة الاحتلال الأجنبى وكانت حرب التحرير الجزائرية هى قضية عروبية إسلامية لا تقلّ فى تأثيرها عن القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من أن بعض الجزائريين كانوا يستهجنون اللهجة المشرقية عند الحديث عن ثورة المليون شهيد وفرض نوع من الوصاية على ذلك الشعب الباسل ومحاولة سرقة نضاله. ولا ننسى نحن المشرقيين والمصريين خصوصا أن الجزائر وقفت مع هموم المشرق بغير تردد ولا تزال صورة هوارى بومدين وهو يهبط فى مطار القاهرة حاملا شيكا على بياض ليدفعه إلى الزعيم جمال عبدالناصر ثمنا للسلاح السوفياتى المطلوب وقتها لمواصلة حرب الاستنزاف والاستعداد لتحرير الأرض المحتلة، لذلك كان التواصل بين المشرق والمغرب قضية محسومة.
أما بالنسبة إلى تونس، فقد كانت المقرّ المؤقت لجامعة الدول العربية فى أعقاب توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وكان أمينها العام فى ذلك الوقت تونسيا أيضا وهو الراحل الشاذلى القليبى، كما كان أمين عام منظمة التعاون الإسلامى ــ المؤتمر الإسلامى وقتها ــ التونسى أيضا الحبيب الشطى، فضلا عن استضافة تونس حينذاك لمقرّ منظمة التحرير الفلسطينية التى سقط شهداؤها الكبار على أرضها، «أبو إياد» و«أبو نضال» ثم تبعهم «أبو الهول«، لكى نشعر بالاندماج الكامل بين ذلك البلد المغاربى وبين المشرق العربى وقضاياه مع الانغماس فى همومه إلى أعلى الدرجات.
أما المملكة المغربية، فلقد ترأس عاهلها الملك الراحل الحسن الثانى اللجنة العليا للقدس وتلاه الملك الحالى محمد السادس، وبذلك أصبح للدول المغاربية الثلاث الكبيرة دور مؤثر فى قضايا المشرق العربى والمسائل المتصلة باستقراره من منظور قومى، لا يفرّق بين الشرق والغرب على خريطة الوطن العربى الكبير، واضعة فى الاعتبار أن ليبيا القذافى كانت شريكا فاعلا فى معظم قضايا المنطقتين العربية والأفريقية مهما اختلف الجدل حول طبيعة ذلك الدور وأهميته. كما أن جمهورية موريتانيا فاجأت الجميع منذ سنوات بالحديث عن علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون مبرر بل ومن دون جدوى ولكن الكثيرين كانوا يظنون أن الوصول إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بل والعقل الغربى عموما، يمرّ بإسرائيل وأن المعونات ستتدفق على أى دولة تقترب من إسرائيل أو تقبل التحدث عن علاقات دبلوماسية مع تل أبيب. ولكن الأمر اختلف وأصبحنا حاليا أمام موقف أراه غير معتاد، فاهتمام الدول المغاربية الثلاث المغرب والجزائر وتونس لم يعُد له ذلك الوجود الفاعل أو القدر المؤثر فى قضايا المشرق العربى وفى مقدمتها القضية الفلسطينية، ولكى نكون موضوعيين، فإن الاهتمام بالقضية قد تراجع فى المشرق العربى والمغرب العربى معا والسبب فى ظنى هو طغيان السياسات الإيرانية والتركية فى المنطقة ومحاولة تقسيمها لنفوذ الدولتين على حساب مفهوم العروبة والسعى القومى لتحقيق عمل عربى مشترك لا يبدو مقبلا فى المنظور القريب. ونحن إذ نتحدث عن المغرب العربى والدول المغاربية الثلاث تونس والجزائر والمغرب على اعتبار أن ليبيا فيها ما يكفيها وأنها بؤرة صراع ومركز أطماع تمارس فيه تركيا أردوغان دورا، أما موريتانيا على الطرف الأفريقى الأطلسى، فهى دولة عربية أفريقية تحمل همومها ولا تزعج غيرها، ولعلى أسوق هنا بعض الملاحظات التى تتصل بالدور المغاربى فى قضايا المشرق:
أولا: يجب أن نعترف بالتميّز الذى تحظى به دول المغرب العربى خصوصا الثلاث التى نتحدث عنها حاليا، فاللغة الفرنسية هى اللغة الثانية فى كل منها، بينما تطعّمت اللهجات الشعبية بالعبارات الفرنسية أيضا، فأصبح الاقتراب الثقافى من فرنسا والجوار الجغرافى لأوروبا مدعاة لخلق خصوصية لدول الشمال الأفريقى تجعل هويتها الإسلامية أحيانا سابقة على انتماءاتها العربية، ولعلنا نتذكر الآن أن الجزائريين فى حربهم الباسلة ضد الاحتلال الفرنسى قد اعتصموا بدينهم، فأصبح الإسلام بالنسبة إليهم قومية أيضا لا دينا فقط، ولقد انعكس الوجود الفرنسى على المجتمعات المغاربية بقدر كبير من التحرر الاجتماعى والاقتراب من نمط الحياة الأوروبية فى اختلاف واضح عن السمات المعروفة لدول المشرق العربى وفى مقدمتها القبلية والعشائرية خصوصا فى منطقة الخليج، كما أن التعليم العام فى دول المغرب تميّز هو الآخر بالتقدّم النسبى نتيجة تفاعله مع الغرب واقترابه من الثقافة الأوروبية، خصوصا الفرنسية.
ثانيا: يتساءل كثيرون لماذا اختفى الاتحاد المغاربى أو انعدم تأثيره؟ ولماذا لم ينشَط مثل مجلس التعاون الخليجى الذى تميّز بالاستمرارية وتواصل قوة الدفع؟ ولا بد من أن أعترف هنا أن الخلاف الجزائرى المغربى ومشكلة الصحراء الغربية كان لهما دور كبير فى إضعاف الاتحاد المغاربى وانزواء دوره، لذلك فإن شراكة دول المغرب العربى مع ما يجرى فى المشرق قد ارتبط هو الآخر بقدر كبير من التأثيرات السلبية لضعف ذلك الاتحاد الإقليمى بين دول الشمال الأفريقى.
ثالثا: لا يمكن أن نقلل من تأثير الخلاف المغربى الجزائرى فى تماسك دول المغرب العربى واتحادها، بل إننا نقرّ صراحة بأن ذلك الخلاف لم يضعف دور الدول المغاربية عربيا فقط، ولكن أفريقيا أيضا، وما زلنا نرى الآثار السلبية لذلك الخلاف فى الاتحاد الأفريقى تارة وفى جامعة الدول العربية تارة أخرى وفى الحالتين نشعر بالأسى لتفاقم ذلك الخلاف واحتدامه عبر السنين.
رابعا: إن الدول المغاربية تشكّل الكتلة الرئيسة لدول شمال أفريقيا على اعتبار أن مصر ــ على الرغم من وقوعها فى الشمال الأفريقى ــ تمثّل كتلة وسط بين المشرق والمغرب، لذلك نرى أن دولا مثل المغرب والجزائر وتونس تبدو لها امتدادات سياسية فى جنوب وغرب أفريقيا على نحو يشكّل لها وضعا إقليميا متميزا إذ يمتدّ نفوذها فى دول غرب أفريقيا الإسلامية، بل وغير الإسلامية أيضا على نحو يجذب اهتمامها تجاه القارة الأم ربما أكثر أحيانا من انجذابها إلى قومية الأصل وأعنى به المفهوم الممتد للعروبة، كما أنه لا يجب أن يغيب عن وعينا أن هناك أقلية أمازيغية فى المغرب والجزائر يمتدّ أثرها إلى تونس وليبيا بل ومصر أيضا، فالأمازيغية ما زالت لغة مستعملة فى بعض مناطق الصحراء الغربية المصرية وحول واحة سيوة وبعض مناطق الوادى الجديد، وذلك معناه أن هناك تداخلا قوميا يجعل الإسلام فى النهاية هو المظلة الأكثر شمولا وليست المعايير القومية هى التى تؤدى إلى ذلك.
خامسا: لقد شهدت دولتان من دول الشمال الأفريقى العربى هما تونس والجزائر وصول رئيسين جديدين إلى قمة السلطة بالانتخاب المباشر، وذلك معناه أن الشواغل الداخلية ومرحلة البناء الذاتى تستأثر بالنصيب الأكبر من اهتمام تلك الدول، وقد تصرفها عن هموم خارجية لا تمثّل الأولوية القصوى لها فى بعض المراحل، كما أن المملكة المغربية قد شهدت فى السنوات الأخيرة محاولات جادة للبناء الذاتى وفتحت الأبواب للاستثمارات، خصوصا فى مجال الصناعة كما أنها أصبحت دولة طموحة لبناء اقتصادى ناجح وفعال فى الشمال الغربى من القارة الأفريقية، كذلك فإن الملك محمد السادس قد حسم، إلى حد كبير، حالة الاضطراب التى كانت قائمة فى بلاده بسبب الصراع بين التيار الدينى والدولة، كما وصلت إلى رئاسة الحكومة شخصيات من المعارضة وبذلك استقرت الأمور إلى حد كبير فى المملكة المغربية بحجمها ودورها.
إننا لا نخالف الحقيقة إذا قلنا إن الدول المغاربية قد انصرفت نسبيا عن هموم المشرق العربى وذلك بسبب طغيان التحديات الداخلية ورغبة قيادات تلك الدول فى التركيز على البناء الداخلى من دون الانتشار الخارجى، ولكن كل ما أسلفناه لا يعنى أن المغرب العربى قد انسلخ عن أمته العربية، فهم شركاء فى الحياة، وفى القدر، وفى المصير!

مصطفى الفقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *