أخبار مصر

«الشروق» تنشر حلقات من كتاب «سنوات الجامعة العربية» لعمرو موسى (4): معضلة السودان وانفصال الجنوب وأزمة دارفور

قرنق قال لى: ما قيمة أن أكون زعيمًا لدولة فى جنوب السودان فقيرة وضعيفة ومغلقة؟!
طلبت من البشير والمهدى والمرغنى العمل على ترغيب الجنوبيين فى الوحدة لكنهم اعتبروا الانفصال قدرًا محتومًا
اتفاق السلام مع الحركة الشعبية كان ملهمًا لكل حركات التمرد فى كل مناطق السودان
الجميع فى دارفور كانوا ضحايا وجلادين بدرجات متفاوتة وأرسلت أول بعثة تقصى حقائق فى العالم إلى الإقليم

فى هذه الحلقة الرابعة من الكتاب الجديد للسيد عمرو موسى، الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، الذى أورده تحت عنوان (سنوات الجامعة العربية) والذى سيصدر قريبا عن «دار الشروق»، نستعرض جهود موسى والجامعة العربية فى أزمات السودان، التى خُصص لها فصلان على مساحة 44 صفحة، تناول الأول، الأزمة بين شمال وجنوب السودان التى انتهت بانفصال الجنوب، فيما خصص الثانى للأزمة السياسية والإنسانية التى عاشها إقليم دارفور اعتبارا من مارس 2003.

ويكشف عمرو موسى فى هذا الكتاب ــ الذى قام بتحريره وتوثيقه الكاتب الصحفى خالد أبو بكرــ أسرار عشرية مليئة بالأحداث الجسام فى بلاد العرب كان فيها أمينا لجامعة الدول العربية (2001ــ 2011)، فعلى مدى 19 فصلا، موزعة على 574 صفحة من القطع المتوسط، لم يترك الأمين العام قضية سياسية كانت الجامعة وهو شخصيا طرفا فيها إلا وتناولها فى أى بقعة من بقاع العالم العربى من محيطه إلى خليجه.

ونجدد التأكيد مرة أخرى على أن هذه الحلقات لن تغنى بحال من الأحوال عن قراءة الكتاب بكامله بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة وربما الصادمة فى آن واحد، وأن هذا العرض شديد الإيجاز ــ وإن كتبناه على لسان موسى بصيغة المتكلم ــ لهو اختزال شديد جدا لبعض الفصول – وليس كلها ــ التى يحويها الكتاب بين دفتيه.

السودان وقضاياه وصراعاته التى لا تهدأ واحد من أهم شواغلى منذ بداية حياتى المهنية فى الدبلوماسية المصرية. تعزز هذا الاهتمام الاستثنائى بالسودان طيلة السنوات العشر التى قضيتها وزيرا لخارجية مصر، كان طبيعيا أن يستمر هذا الاهتمام بالسودان خلال العقد التالى الذى قضيته أمينا عاما لجامعة الدول العربية؛ ذلك أنه كانت أعمدة النار والدخان ــ خلال تلك الفترة ــ تحاصر هذا البلد مترامى من معظم الجهات. كانت هناك الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان فى الجنوب، وأزمة دارفور، وتمرد محلى فى أكثر من ولاية، والاضطرابات مع تشاد فى الغرب، بجانب تدهور العلاقات مع إأريتريا وأحيانا إثيوبيا فى الشرق، ناهيك عن الاضطرابات فى العلاقة المصرية السودانية من فترة لأخرى لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى البعد الليبى غير المستقر.

قضية جنوب السودان
هناك عوامل عدة تضافرت فى خلق وتغذية ذلك الصراع بين الجنوب والشمال، منها التعددية العرقية فى السودان، بما فى ذلك فى جنوبه، وتمايزها عن الشمال، وكذلك التعددية الدينية فى الجنوب، بجانب الصراع على الموارد ومداخيلها بين الشمال والجنوب، فضلا عن سياسة التهميش التى وقعت فيها الحكومات المركزية السودانية تجاه الأطراف كافة، وفشل هذه الحكومات المتعاقبة فى تعزيز قيم المواطنة، التى تنصهر فيها النزاعات العرقية والدينية والقبلية. ولا ننسى أيضا جهود بريطانيا الاستعمارية فى تفجير النزعة الانفصالية وتكريسها لدى سكان جنوب السودان. عبر تعزيز دور البعثات التبشيرية، وسياسة إضعاف الثقافة العربية، وإحلال الموظفين الجنوبيين محل الشماليين، ومنع التجار الشماليين من الوصول إلى الجنوب.

فى 20 يوليو 2002، وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية بروتوكول مشاكوس بكينيا، الذى قبلت به الجامعة العربية فى حينه بعد أن وقعت عليه حكومة السودان (فلم يكن للجامعة أن تصبح ملكية أكثر من حكام السودان)، والذى تضمن وثيقتين، الأولى تقضى بتمديد الهدنة القائمة حتى نهاية مارس 2003، والثانية تغطى عددا من النقاط التى قبل بها الطرفان مبدئيا، وهى تتعلق باقتسام السلطة والثروة، لكن دون الإقرار بأى موقف حاسم بشأنها. واتفق الطرفان على إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية فى المناطق التى يقطنها غير المسلمين وإجراء استفتاء فى الجنوب على الانفصال أو الوحدة بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات.

بعد ذلك التوقيع حددت بعد التشاور مع الحكومات العربية المعنية جهود الجامعة العربية فيما يخص الصراع بين شمال وجنوب السودان فى جانبين أساسيين، يتعلق أولهما بدفع عملية السلام والمفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، وحثهما على إبرام وتوقيع اتفاق سلام شامل ربما يساعد على الوحدة، وثانيهما بدعم التنمية وإعادة الإعمار فى المناطق التى تضررت من الحرب.

قبلها كنت استقبلت فى مقر الجامعة بالقاهرة فى مارس 2002 زعيم الحركة الشعبية جون قرنق، الذى أعرب عن توجهات وحدوية، مطالبا بدعم الجامعة العربية لتلك التوجهات. بنيت على ذلك اللقاء المثمر، وأرسلت بعثة عربية برئاسة السفير سمير حسنى، مدير إدارة إفريقيا بالجامعة العربية، فى إبريل 2003 إلى مدينة رومبيك الجنوبية مقر قيادة الحركة الشعبية فى جنوب السودان، وتعد هذه البعثة العربية الأولى التى تزور تلك المنطقة، للتأكيد على التزام الجامعة العربية ومؤسساتها بالمساهمة الفاعلة فى تنمية جنوب السودان والمناطق المتأثرة بالحرب، وجعل الوحدة خيارا طوعيا جاذبا.

يجب أن أتوقف هنا لأتحدث عن قرنق الذى ربطنى به تفاهم خاص، فتعددت لقاءاتى به بعد زيارته الأولى لمصر سنة 1997؛ فموقفه تطور تطورا متدرجا، فبدلا من النضال لتحقيق انفصال الجنوب صار النضال من أجل الحقوق المتساوية بين كل السودانيين فى أنحاء السودان كافة بما فى ذلك الجنوب، وذلك فى إطار الشعار الذى رفعه وهو «السودان الجديد» الجامع لكل الأعراق والديانات. وربما كان هذا التطور فى موقف زعيم الحركة الشعبية من الأسباب التى أسهمت فى اختفائه المؤسف من الحالة السياسية فى السودان.

كان قرنق يقول لى فى كل لقاء يجمعنى به: «ما قيمة أن أكون زعيما أو رئيسا لدولة جنوب السودان الفقيرة الضعيفة الصغيرة المغلقة؟!.. أنا أريد أن أكون رئيسا للسودان كله.. هذا حقى مادمت مواطنا سودانيا».. كنت أحيى فيه ذلك التوجه وأؤيده، إلا أن رؤيته تلك لم تلق ترحيبا من أى من الأطراف الفاعلة فى المسألة السودانية.. أفارقة كانوا أو عربا أو غربيين، بل ومن زعماء السودان (الشمالى) ولكننى أعتقد أنه لو قدر لقرنق أن يحقق بداية جديدة على أساس فكرة «السودان الجديد» مع فرصة ترشحه للرئاسة لربما أخذت الأحداث مسارا أخر مختلفا تماما، إذ كان من شأن ذلك خلق ديناميكيات مختلفة لم يرد أى من الأطراف لها أن تخلق.

اتفاق السلام الشامل
تلبية لدعوة الحكومة الكينية، شاركت فى 9 يناير 2005، مع العديد من القادة العرب والأفارقة فى مراسم توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بنيروبى. نص الاتفاق الشامل على وقف دائم لإطلاق النار وإقامة فترة انتقالية مدتها 6 أعوام يتعاون خلالها الشمال والجنوب فى حكم البلاد، ويكلف قرنق بمسئوليات النائب الأول للرئيس السودانى. كما نصت الاتفاقية على تقاسم عائدات النفط، وحق الحركة الشعبية وحلفائها الجنوبيين فى تشكيل حكومة للجنوب لإدارة شئونه بالكامل لفترة 6 سنوات تنتهى بتصويت سكان الجنوب ومنطقة أبيى الغنية بالنفط فى استفتاء يجرى فى 9 يناير 2011 على الانفصال عن شمال السودان أو الوحدة معه.

كان يجلس بجوارى فى أثناء مراسم التوقيع الصاخبة التى جرت فى ستاد نيفاشا بنيروبى، أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر وقتئذ. فى أثناء مراسم التوقيع شردت بعيدا. كنت أرى أن الأمور تسير بالتأكيد نحو انفصال الجنوب. يبدو أن أبوالغيط كان يفكر فيما كنت أفكر فيه. فقد قطع على شرودى بأن قال لى: أستطيع أن أقول لك يا عمرو بك أنه بالتوقيع على هذا الاتفاق سينتهى الأمر إلى التقسيم.

قلت: بالفعل، هذا ما أتوقعه، لكن علينا ألا نستسلم. يجب أن نبذل قصارى جهدنا لحث الجنوبيين على التصويت لخيار الوحدة فى 9 يناير 2011. اتفق معى أحمد فى ذلك. وهو ما عملت الجامعة العربية ومصر على تحقيقه.

يمكن القول إن عملا كبيرا قد تحقق من خلال الاجتماعات التنسيقية التى عقدتها الجامعة العربية لدفع منظومة العمل العربى المشترك للقيام بدور بارز فى الإسهام فى التنمية فى جنوب السودان وجعل وحدة السودان خيارا جاذبا، وشارك فى هذه الاجتماعات صناديق التمويل العربية والمنظمات العربية المتخصصة والاتحادات فى المجالس الوزارية العربية. وكانت حصيلة قيمة المشروعات التى دخلت حيز التنفيذ الفعلى فى جنوب السودان أكثر من 200 مليون دولار فى مجالات الطرق والمياه والكهرباء ومجال الخدمات وخاصة التعليم والصحة.

لقد بذلت الجامعة العربية جهودا ملموسة وقامت بأدوار فاعلة للمساعدة فى التوصل إلى حل سلمى شامل للمسألة السودانية، غير أن أداء النظام العربى عانى ولايزال يعانى من الفجوة الواضحة بين اتخاذ القرار وعدم تنفيذه، فلقد قررت قمة بيروت إنشاء الصندوق العربى لتنمية جنوب السودان بمساهمات مالية من الدول العربية، غير أن هذا الصندوق لم يتلق إسهامات تذكر. كما اتخذ مجلس الجامعة بعد ذلك قرارا يدعو الدول الأعضاء إلى معالجة ديون السودان العربية بهدف تمكين السودان من مواجهة تحديات بناء السلام والوحدة، لكن ذلك لم يحدث أيضا.

الاستفتاء على الانفصال
جرى استفتاء الشعب السودانى فى جنوب السودان بشأن استمرار الوحدة مع الشمال وبين الانفصال، فاختاروا الانفصال. والواقع أننى بصفتى المصرية، وبصفتى أمينا عاما لجامعة الدول العربية كنت معارضا لتقسيم السودان، وتحدثت فى هذا مطولا مع الرئيس البشير والصادق المهدى وعثمان المرغنى وآخرين مشجعا على رفض الانفصال (التقسيم) وداعيا إلى عدم التساهل أو الخضوع لمخططات الانفصال ولكن تبدت لى هنا جملة من الأمور:

1 ــ كان واضحا أن هناك تسليما منهم بحصول الانفصال كقدر محتوم.
2 ــ كانت الشطحات الدينية لنظام البشير تفضل إعمال الشريعة الإسلامية على السودان كله، فإن لم يكن فعلى الأقل على شمال السودان ولو أدى إلى انفصال الجنوب!!!
3 ــ مصرع قرنق الذى كان فى رأيى قادرا على تدوير عدد من الزوايا الحادة فى العلاقة بين الشمال والجنوب، وبين التوجهات الإسلامية ومتطلبات الوحدة السودانية. كما بين السياسة التقليدية السودانية والنظرة المستقبلية التى تقبل بسودان مختلف وعلى درجة غير مسبوقة من الانفتاح.
4 ــ القوى المتنفذة التى استقر رأيها على تقسسيم السودان، من قوى عظمى وقوى إقليمية وقوى سودانية جنوبية وشمالية.. كانت ترى فى انفصال الجنوب حلا لمعضلات كثيرة مع الأسف الشديد.

الأزمة السياسية والإنسانية فى دارفور
ما توقعته بعد توقيع اتفاق مشاكوس بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان الانفصالية فى 20 يوليو 2002، والذى تضمن فيما تضمن وثيقة مبدئية تتعلق باقتسام السلطة والثروة بين شمال وجنوب السودان (مع تفاصيل عديدة) قد حصل؛ ذلك أن هذا الاتفاق كان ملهما لحركات متمردة فى دارفور، رأت أن القتال وحده هو ما يجلب نظام البشير لطاولة المفاوضات، فى سياق مساعى هذه الحركات للبحث عن صيغة لتقاسم السلطة والثروة فى ذلك الإقليم، الذى يعانى التهميش والإهمال شأن بقية الأقاليم السودانية، ولتقاسم السلطة والثورة فى السودان بعمومه.

شيئا فشيئا بدأ تسخين الصراع فى دارفور إلى أن وصل الموقف إلى النقطة التى فجرته وقادت إلى مأساة إنسانية كبيرة لسكان الإقليم بكل مكوناتهم العرقية، تلك النقطة كانت فى مارس 2003، عندما ثار متمردون ضد البشير، بدعوى تعرضهم للتهميش، وأعلنت حركتان مسلحتان هما حركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة تمردهما. هاجم مسلحو الحركتين مدينة الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، ونجحوا فى تدمير 7 طائرات بمطار المدينة.

وهو ما ردت عليه الحكومة باستراتيجية معروفة لدى الحكومات السودانية لمكافحة التمرد منذ عهد الصادق المهدى فى الثمانينيات من القرن الماضى تستند إلى حشد الميليشيات العربية المعروفة باسم «الجنجويد المشهورة بشراستها لمكافحة المتمردين. فى سياق الحديث عن أزمة دارفور والعوامل المؤدية لها لابد من الحديث عن تهميش الإقليم كله من قبل الحكومة المركزية وانعدام مشاريع التنمية والخدمات الأساسية من تعليم وصحة… إلخ.

هل طرفا الصراع ثابتان فى دارفور؟
قبيل استعراض تفاصيل ومراحل الأزمة السياسية والإنسانية فى دارفور منذ سنة 2003، ودور الجامعة العربية فى محاولة التوصل لحلول لها بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقى والأمم المتحدة، أود أن أنبه إلى أن هناك تصورا خاطئا يقع فيه الكثيرون، حاولت تصديره دوائر غربية لدق إسفين داخل العالم العربى والإسلامى عبر دارفور التى تسكنها أغلبية مسلمة كاسحة، بإبراز الحرب وكأنها بين «المسلمين الأفارقة» و«المسلمين العرب»، وهو الأمر الذى يمكن أن يكون له انعكاساته وتداعياته السلبية وإشارة غير محمودة إلى «الإسلام العربى» و«الإسلام الافريقى».

عمدت تلك الدوائر ــ ولاتزال ــ على تصوير أن طرفى هذا الصراع ــ الذى استمر منذ 2003 وحتى الآن (2018) ــ ثابتان (العرب وأفارقة)، دون إدراك لتلك الانقلابات المستمرة فى التحالفات فى دارفور، ناهيك عن الانشطارات المتوالية للكتل الرئيسية فى هذا الصراع، سواء على صعيد القبائل الداعمة للتمرد، أو تلك الداعمة للحكومة، فبعد أن استعانت الحكومة بقبائل عربية لمواجهة قبائل إفريقية متمردة، دخلت القبائل العربية فى حرب طاحنة فيما بينها، ثم استعان البشير بقبائل إفريقية لمواجهة القبائل الإفريقية المتمردة. قصدت استعراض المراحل المختلفة لهذا الصراع (موجودة بتفاصيل كثيرة الكتاب) فى البداية لإثبات أن المآسى التى عاناها سكان هذا الإقليم كان الجميع فيها ضحايا وجلادين فى ذات الوقت، وإن بدرجات متفاوتة.

مع تطور الأحداث فى دارفور اعتبارا من مارس 2003 بدأ الاهتمام العالمى بهذه الأزمة بدأت دائرة الانتقادات الموجهة إلى الحكومة السودانية فى الاتساع، حيث أعلن رئيس المفوضية العليا لشئون اللاجئين فى 4 مارس 2004 أن هناك فظائع ترتكب فى إقليم دارفور غربى السودان، وطالب الحكومة بفتح باب الحوار مع المتمردين على وجه السرعة، وإيقاف ميليشيات «الجنجويد» العربية.

ووصفت حملات إعلامية لم يسبق لها مثيل فى الغرب الصراع بأنه «أول إبادة جماعية فى القرن الواحد والعشرين» (وهو ادعاء غير حقيقى) ومالت تلك الحملات إلى إدراج عرب دارفور ــ الذين بقى معظمهم على الحياد ــ ضمن ميليشيات «الجنجويد» التى دعمتها الحكومة، وهو ما أكدت دراسات غربية رصينة أنه غير دقيق، وأن نسبة العرب المشاركين فى تلك الميليشيات صغيرة جدا، وأن دوائر غربية كانت تبالغ فى قدرات الحكومة السودانية الهشة على كبح جماح ميليشيا الجنجويد. وكان لافتا للنظر عدم تطرق الحملات الغربية إلى ممارسات المتمردين، فلم تكن الانتهاكات من جانب واحد فى دارفور!

انطلاقا من المعطيات السابقة عملت الجامعة العربية على تبرئة ساحة الثقافة العربية بشكل عام من أتون الصراع فى دارفور. ونشطت الجامعة فى تقوية اتصالاتها وتنسيق جهدها مع الجهود الإفريقية وجهود الاتحاد الإفريقى بشكل خاص؛ بحيث لا يظهر أن الجهد العربى منفصلٌ عن صنوه الإفريقى، ويتأكد أمام المجتمع الدولى تطابق الموقفين العربى والإفريقى من تلك الأزمة التى أثارت نعرات عرقية وعنصرية زائفة. كان خوفى كبيرا من أن تطال خطوط التماس العربية ــ الإفريقية فى القارة الإفريقية بأكملها، وتكرس انقساما إثنيا بين شمال القارة وجنوبها. وتفتح الباب أمام مطالب انفصالية بذرائع إثنية أو طائفية تهدد الأمن القومى السودانى والعربى والإفريقى.

بعثة تقصى حقائق من الجامعة العربية
أمام كل تلك التطورات فى دارفور كلفت السفير سمير حسنى، مدير إدارة إفريقيا بالجامعة العربية بالذهاب على رأس بعثة من الجامعة لتقصى الحقائق والوقوف على حقيقة الأوضاع فى الإقليم، وكانت أول بعثة دولية من نوعها تذهب إلى دارفور، وشملت مهمتها زيارة السودان، حيث ــ خلال الفترة من 29 إبريل إلى 15 مايو 2004.

عقب عودتها قدمت بعثة تقصى الحقائق تقريرا من ثلاثة أجزاء: الأول مرتبط بلمحة عامة عن دارفور، والثانى ملاحظات البعثة، والثالث بتوصياتها. فيما يتعلق بملاحظات البعثة، فقد ثبت لها أن هناك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من كلا الطرفين المتصارعين فى دارفور، غير أنها استبعدت تماما وجود «إبادة جماعية» أو «تطهير عرقى» يمارس فى الإقليم، وهو ذات الموقف الذى عبر عنه فى صراحة وشجاعة ألفا عمر كونارى، رئيس الاتحاد الإفريقى. وللتاريخ وللباحثين وللمواطن السودانى والعربى ولكل من يريد الوقوف على حقيقة ما جرى فى دارفور سأذكر النص الحرفى لملاحظات البعثة (منشور بكامله فى الكتاب).

كان للقليل مما تسرب من هذا التقرير دوى كبير، وبدأت حكومة السودان فى الاحتجاج على الأمانة العامة للجامعة العربية، وقرر الرئيس البشير عدم حضور القمة العربية فى تونس 2004 احتجاجا على ذلك التقرير، مع تهديدات مختلفة متعلقة بإثارة دور الأمين العام ومدى تفويضه بالتصرف والأمر بالتحقيق فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء.

كما تحدث معى أيضا بعض كبار المسئولين فى دول عربية، مبدين احترامهم للتطور الكبير فى عمل الجامعة ودورها فى مواجهة الأزمات العربية، مع النصح بعدم الذهاب بعيدا فى ذلك لما قد يترتب عليه من تفجير الجامعة من داخلها. كنت أعلم ذلك، ولكنى كنت أرى ــ ولا أزال ــ أن دور الجامعة يجب أن يتطور جذريا، وألا تقبل الجامعة التغطية على ــ أو تجاهل ــ مواقف شديدة السلبية مثل الوضع فى دارفور، ومن ثم أمرت:

• بتسريب أجزاء من التقرير، للضغط على الحكومة السودانية لاتخاذ اجراءات سريعة وحاسمة تجنب السودان مخاطر الانقسام والتكالب الدولى عليه، عوضا عن المناشدات التى أعرف مسبقا أن البشير لن يستجيب لها.
• أن تتدخل الجامعة إيجابيا بالعمل على التواجد فى دارفور، والتواصل مع مختلف الأطراف.
• إبقاء الوضع فى دارفور على جدول أعمال النقاش المستمر مع الحكومة فى الخرطوم.
• تحدثت شخصيا مع المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كى لا تظل متابعته مقتصرة على الحكومة وأفعالها، وإنما أيضا على المنظمات المتمردة الأخرى الخارجة عن السيطرة والتى تعتبر إرهابية، إذ ترتكب الكثير من الجرائم ضد الإنسانية، وهو ما قبله المدعى العام ووعد بالقيام به (قام بذلك جزئيا).

والحقيقة أن هذه التحركات من جانب الجامعة العربية استطاعت أن تفتح أبوابا للنقاش ثم للتفاهم مع حكومة السودان على أهمية دور الجامعة والمجال الواسع لحركتها، وأن السلبيات التى تراها الحكومة السودانية فى أداء الجامعة من وجهة نظرها تقابلها إيجابيات، مما سمح بحرية حركة من جانب الجامعة دعمته من جانبى بمزيد من التنسيق مع الاتحاد الأفريقى، ومزيد من الحركة على الأرض فى دارفور، بادئا بزيارة رسمية لها هى الأولى من جانب الأمين العام للجامعة العربية.

السودان وقضاياه وصراعاته التى لا تهدأ واحد من أهم شواغلى منذ بداية حياتى المهنية فى الدبلوماسية المصرية. تعزز هذا الاهتمام الاستثنائى بالسودان طيلة السنوات العشر التى قضيتها وزيرا لخارجية مصر، كان طبيعيا أن يستمر هذا الاهتمام بالسودان خلال العقد التالى الذى قضيته أمينا عاما لجامعة الدول العربية؛ ذلك أنه كانت أعمدة النار والدخان ــ خلال تلك الفترة ــ تحاصر هذا البلد مترامى من معظم الجهات. كانت هناك الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان فى الجنوب، وأزمة دارفور، وتمرد محلى فى أكثر من ولاية، والاضطرابات مع تشاد فى الغرب، بجانب تدهور العلاقات مع إأريتريا وأحيانا إثيوبيا فى الشرق، ناهيك عن الاضطرابات فى العلاقة المصرية السودانية من فترة لأخرى لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى البعد الليبى غير المستقر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *