أخبار مصر

وزير التعليم السابق الهلالي الشربيني يكتب: التفكير الاستراتيجى الطريق إلى التنافسية الدولية

تمثل ثقافة التفكير الاستراتيجى أطرا فكرية تنظيمية ينتجها العقل البشرى المبدع فى شكل أفكار ورؤى ونماذج، تتحول مع الوقت والانتشار إلى أطر ثقافية ونماذج معيارية قياسية تحكم الواقع العملى لتسيير الأعمال فى مختلف ميادين الحياة، وفى هذا السياق يمثل التفكير الاستراتيجى توجها فكريا يتسم بالفطنة والذكاء والإبداع، والتحرر من القيود والحدود، كما يتميز بالانطلاق من استقراء الماضى واستكشاف الحاضر والقدرة على التحليل والتشخيص والتصور ورسم صورة للمستقبل، ومن ثم إحداث التأثير والتغيير والتحسين فى الحاضر الموجود وصولا إلى المستقبل المنشود، وكذا تحويل أحلام اليوم إلى واقع فى الغد والانتقال من وضع حالى إلى وضع آخر مأمول من خلال رسم رؤى وتحديد أهداف، ووضع خطط، وتحديد برامج تنفيذية عملية.
والتفكير الاستراتيجى عبارة عن عملية متعددة الأبعاد تغطى كل مكونات النظام من مدخلات وعمليات ومخرجات وتقييم وتقويم، بما تتضمنه من ديناميكية وحركة، ومدخلات غير مرئية، ومخرجات يصعب تحديد مصدرها فى كثير من الأحيان، مما يلقى بكثير من الضبابية على عمليات التقييم والتقويم، وذلك فى إطار سؤال عام دائما ما يفرض نفسه: هل نحن نقوم بعمل الشىء الصحيح؟ وأسئلة أخرى فرعية غالبا ما تطرح نفسها أمام المخططين من قبيل: أين نحن؟ وإلى أين نريد أن نصل؟ وكيف نصل إلى هناك؟ وما الوسائل التى تمكننا من الوصول؟ وكيف يمكننا تقييم وتقويم ما أنجزناه؟
ويرتبط التفكير الاستراتيجى بشكل أو بآخر بفعالية الإدارة وقدرة القائد على تقديم تصورات استشرافية واتخاذ قرارات غير نمطية تقود المؤسسة إلى استغلال الطاقات والإمكانات المتاحة وعبور الأزمات والتميز فى مواجهة الخصوم والمنافسين، ومن ثم فهذا النوع من التفكير يتطلب التعلم المستمر لكونه تفكيرا طويل المدى يعتمد على التقاط الصورة من أعلى للوصول إلى رؤية كلية شمولية للمشهد ومن ثم تحديد المخاطر والتحديات والفرص والمنافع، ثم تعديل المسار أو الخطط الموضوعة بهدف التعامل مع الواقع وأداء الأعمال بشكل صحيح.
والتفكير الاستراتيجى هو أيضا طريقة تحاكى التحرك بميدان الشطرنج تبدأ بتحديد الخصوم أو المنافسين وتحديد طبيعتهم (ملك، حصان، عسكرى) لتفهم إمكاناتهم وأساليب تحركهم والاستراتيجيات التى يتبعونها ونقاط الضعف والقوة التى تميز كل منهم وردود الأفعال المتوقعة منهم حال تنفيذ أى تطوير أو تحسين يهدد مواقعهم أو يقلل من مكاسبهم، وفى ضوء كل ذلك يتركز توجه التفكير الاستراتيجى نحو وضع خطة مركزة فى ضوء إمكانات أقوى الخصوم أو المنافسين ليسهل التغلب عليهم بأقل قدر من الخسائر وتحقيق أعلى قدر من المنافع والمكاسب والقيم المضافة.
والتفكير الاستراتيجى هو كذلك صفة مكتسبة يمكن لأى إنسان أن يكتسبها بالمعرفة والتدريب وتعلم كيفية وضع سيناريوهات مستقبلية لكل شىء من المتوقع أن يحدث، وبالتالى فهذا التفكير يجعل صاحبه من ذوى البصائر ويُمكنه من صياغة وكتابة الغايات والأهداف بعيدة المدى وتحليل البيانات واستغلال الإمكانات واتخاذ القرارات.
وهناك فرق بين التفكير الاستراتيجى كمنهج ينتج عنه إدراك استراتيجى يقود التفكير لدى أصحابه وبين التخطيط الاستراتيجى الذى يمثل مرحلة تطبيقية لاحقة على هذا التفكير تعمل على تحقيق رسالة المؤسسة وتنفيذ أهدافها، من منطلق أن التفكير الاستراتيجى يعد وسيلة وليس غاية فى حد ذاته، وباعتبار أن التفكير يسبق التخطيط كما أن الخطة تكون وليدة الفكرة، وباعتبار أيضا أن التفكير الاستراتيجى يمثل عملية ذهنية عقلية غير مرئية موطنها العقل، بينما التخطيط الاستراتيجى يعد عملية تعتمد على أنشطة فعلية تتضمن رصدا للموارد والإمكانات المطلوبة لتحقيق هدف ما، وبالتالى فالمخطط الاستراتيجى لا يمكن أن يكون ناجحا إلا إذا كان مفكرا استراتيجيا ناجحا.
وهناك أيضا علاقة تكاملية بين التفكير الاستراتيجى الذى يهتم بالماضى والحاضر بهدف وضع تصور للمستقبل والتفكير التشغيلى الذى يركز على الحاضر فقط؛ حيث إن الأول بدون الثانى يكون مجرد تصورات من الخيال لا قيمة لها إلا فى عقل صاحبها، كما أن الثانى بدون الأول لا يعدو مجرد محاولات عشوائية محدودة القيمة أو عديمة الفائدة؛ فالمفكرون الاستراتيجيون هم صناع المستقبل كما أن المفكرين التشغيليين هم صناع الحاضر الذى يعتمد عليه المستقبل.
وفى ضوء ما تقدم يمكن إجمال السمات التى تميز التفكير الاستراتيجى فى كونه تفكيرا إبداعيا يؤمن بالتطور والبعد عن الحلول التقليدية، وفى كونه أيضا تفكيرا انتقائيا يستهدف المستقبل والقضايا الأكثر إلحاحا، وكذلك فى كونه ذا توجه شمولى يستهدف القضايا من منظور كلى متكامل بجرأة وإقدام وسرعة فى اتخاذ القرار، هذا بالإضافة إلى كونه تفكيرا استثماريا يقوم على استثمار الأفكار والرؤى والطاقات الإبداعية التى من شأنها أن تغير صورة المستقبل الاقتصادى والاجتماعى للأفراد والجماعات والأمم والشعوب.
ولكى نتمكن من توطين ثقافة التفكير الاستراتيجى فى مؤسساتنا العربية كى تحقق التميز وتتمكن من الدخول فى حلبة التنافسية الدولية، يجب علينا تدريب المعنيين بتلك المؤسسات على الأخذ بمجموعة من الإجراءات واكتساب عدد من المهارات، منها:
• النظرة من أعلى للقضايا وتطوير رؤية شمولية تتضمن كل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتقنية وكذا التغيرات الإقليمية والدولية التى تحيط بها وتحليلها من حيث تداخلها وتشابكها وتفاعلها وانعكاساتها.
• كيفية التعامل مع البيئات المعقدة التى تتسم بالشك والديناميكية والتداخل واختلاط المدخلات المرئية وغير المرئية، وبالطبع تتطلب هذه العملية الإحاطة بالحلول التى تقدمها النظريات التى تحكم هذا التعقيد والشك والضبابية مثل نظريات: الفوضى والسيبرنيطيقا الثانية والمعرفة الشظوية.
• التركيز على العمل الفريقى نظرا لما يتمتع به من فرص للوصول إلى الحلول وكشف الشك والغموض من منطلق أن مخرجات الفريق تكون أكبر بكثير من مجموع مخرجات أعضائه منفردين.
• تعزيز القدرات الإبداعية للأفراد داخل المؤسسات وتمكينهم من العمل فى بيئة ديمقراطية تحويلية تقدم القدوة وتدعم الحوار والانفتاح العقلى واستشراف المستقبل.
• ترسيخ آليات فعالة للمساءلة والمحاسبية بهدف تعزيز القدرات الذاتية للمؤسسة وتمكينها من إعادة تقييم أوضاعها واتخاذ القرارات التى من شأنها مواجهة قوى رفض التغيير المدفوعة من البعض بشعور الأمان، وكسب ثقة العملاء ورضا العاملين، وتعزيز العلاقات الإنسانية بين الرؤساء والمرءوسين، وتقبل رقابة الحكومة والمجتمع المدنى فى إطار من الشفافية والقناعات الأخلاقية بأهمية مقاومة الفساد وصنع التقدم العلمى وعدم التوقف عن مجرد الإحاطة به واستهلاك منتجاته.
وفى ضوء كل ما تقدم يمكن للمؤسسات أن تحقق التميز وتدخل فى حلبة المنافسة الإقليمية والدولية.
* وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى السابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *