رحيل طارق البشري… القاضي المؤرخ المهموم بالجماعة الوطنية
وشغل البشري منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقا، ورئيس لجنة التعديلات الدستورية في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011،
ولد طارق عبد الفتاح سليم البشري في 1 نوفمبر 1933 بحي الحلمية في مدينة القاهرة في أسرة البشري التي ترجع إلى محلة بشر في مركز شبراخيت في محافظة البحيرة في مصر.
ويعد المسشار طارق البشري أبرز المؤرخين والكتّاب الذين أثروا في وعي عدة أجيال، عبر كتبه العديدة التي تعد علامة بارزة في المكتبة العربية، ومنها كتبه “الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952″، و”المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، و”نحو تيار أساسى للأمة”، و”الحوار الإسلامى العلمانى”، “بين الإسلام والعروبة”، و”محمد علي ونظام حكمه”، و”من أوراق ثورة 25 يناير”.
في حوار سابق له في عام 2007، منشور على موقع “مداد” قال المستشار طارق البشري إنه تأثر جدا بسيرة ومسيرة جده الشيخ سليم البشري الذي كان صاحب السهم الأكبر في تربيته، وأن أهم ما عرفه فيحياته، كان نقلا عن جده بأن قيمة الإنسان ليست في المال أو المنصب، لكن العلم هوالقيمة الأساسية.
آل البشري.. الجد والحفيد
بتتبع تاريخ رجلي آل البشري، الجد الشيخ سليم، والحفيد المستشار طارق، يبدو أن هذا الأثر ليس في النشأة والتكوين فقط، بل في انتهاج نفس الانحيازات أمام محطات الحياة ومواقفها الصعبة، حتى أن هناك بعض المواقف تكاد تكون متطابقة في مسيرتهما، مع اختلاف موقع كل منهما واختلاف العصر والنظام السياسي بل وحتى شكل الدولة، مسيرة الجد والحفيد اللذان تعود أصولهما إلى مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، جمع بينهما، الثقل العلمي كل في مجاله، فالشيخ البشري تولى مشيخة الأزهر فترتين بين عامي 1900-1916، كما كان شيخا للمذهب المالكي في عصره، وترك العديد من الكتب والمؤلفات العلمية، في علوم العقيدة واللغة العربية والفقه، والحفيد المستشار البشري تولى رئاسة الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، ومنصب النائب الأول في لرئيس مجلس الدولة، ورئيس لجنة التعديلات الدستورية التي شكلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد ثورة 25 يناير، كما ترك قائمة مطولة من الكتب في مجالات متنوعة في التاريخ والقانون والتشريعات الإسلامية والفكر الإسلامي.وبحسب موقع الهيئة العامة للاستعلامات، فإن المستشار البشري “ترك ذخيرة من الفتاوى والآراء الاستشارية التي تميزت بالعمق والتحليل والتأصيل القانوني الشديد، كما تميزت بإحكام الصياغة القانونية، ولا زالت تلك الفتاوى إلى الآن تعين كلا من الإدارة والقضاة والمشتغلين بالقانون بشكل عام على تفهم الموضوعات المعروضة عليهم”.
تحولات البشري
مر البشري بتحولات فكرية في مسيرته، فقد مثلت هزيمة 1967، بداية تحول له إلى الفكر الإسلامي، بعد أن كتب مقاله بعنوان “رحلة التجديد في التشريع الإسلامي”، لتستمر مسيرته وعطاءاته والتدوين في مجالات القانون والتاريخ والفكر.
تحدث البشري عن تحولاته في بعض حواراته المنشورة إعلاميا، والموجودة على شبكة الانترنت، ملخصا بداية هذه التحولات بأنه “في كليةالحقوق كنت علماني التفكير، وكانت دروس الشريعة الإسلامية من الأشياء التي أبقتني منجذباً إلى الإسلام كنظام في المجتمع والمعاملات، وكنت أشعر من شدة احترافي للقانون، ومن هضميللتركيب الفني لأحكام الشريعة الإسلامية، وللبناء الفقهي الذي انجدلت منه الأحكام المستخلصةمن أحكام الشرع الإسلامي في القرآن والسنة، أن الفقه الإسلامي هو من أعظم ما تفتقت عنه العقلية الإسلامية فيما قدمت للحضارة الإنسانية”.
تركت تحولات المستشار البشري من الطالب وقائد اليساري في الحركة الطلابية المصرية، إلى الاهتمام بالشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي بصمتها عليه، حيث يبدو اهتمامه الكبير بالتدوين والكتابة عن الحركة الوطنية المصرية، وعن الحوار بين الإسلام والعلمانية، وعن الإسلام والعروبة، وعن ثورتي 1919 و25 يناير، حيث يعمل رؤية وبصيرة القاضي وضميره في النقد والتحليل والشرح والتفكيك في كتاباته.
كتابات البشري وانتاجه الفكري، لم ينسياه منصبه الأصلي في الأساس كقاضي، حيث كان صاحب صوت مسموع وموقف واضح داعم لاستقلال السلطة القضائية، محذرا من المساس بالحدود التى رسمها الدستور لكل سلطة أو مؤسسة حتى لا تتعدى سلطة أو تهيمن على غيرها، وهي مواقف لا تنبع فقط من كون البشري قاضيا إداريا كبيرا له بصمات فى تاريخ مجلس الدولة بأحكامه وفتاواه، لكنها أيضا حصيلة نشاطه وإنتاجه كمؤرخ ومفكر تناول بالتحليل والتفكيك العلاقة بين السلطة القضائية والأنظمة السياسية الحاكمة المتعاقبة فى أكثر من مؤلف، أبرزها كتاب «القضاء بين الاستقلال والاحتواء» الذى صدرت طبعته الأولى فى مايو 2006 فى خضم الأزمة الشهيرة بين نادى القضاة ووزارة العدل على خلفية أحداث انتخابات مجلس الشعب 2005.
رؤية البشري للموازنة بين التشريع الإسلامي والقضاء
رؤية البشري للموازنة والارتباط بين التشريع الإسلامي والقضاء تتجلى بوضوح في حوار له مع جريدة الشروق 2017، وعند سؤاله عن تجديد الخطاب الديني قال البشري، وأنت فى موقع القضاء والإفتاء لا بد أن تكون مجددا لأنك أمام حالات واقعية أوسع من النصوص الثابتة.. فلا بد أن تجدد وتجتهد.. نحن لا ندعو للتجديد فقط بل نمارسه أيضا.. ثم يأتى مؤلفو الكتب ليعمقوا هذه الاجتهادات فى المسائل ويصبونها فى صياغات فكرية.
وأغلب رئاساتنا فى محكمة النقض ومجلس الدولة ذات الأثر الكبير فى تربيتنا وتفكيرنا كانت أساليبهم فى فهم وتفسير وتطبيق القانون الوضعى ناتجة عن فهمهم العميق للفقه الإسلامى وأدواته.. أى إنهم فسروا القانون الوضعى بأدوات الفقه الإسلامى.. حتى عبدالعزيز باشا فهمى (أول رئيس لمحكمة النقض) والذى كان يدعو فى مرحلة مبكرة لاستخدام الحرف اللاتينى بدلا من الحرف العربى كما حدث فى تركيا بعد انهيار الخلافة العثمانية.. وعندما بدأ يحكم فى القضايا استخدم أدوات الفقه الإسلامى ولجأ للمرجعين الشهيرين «الموافقات» للشاطبى و«الفروق» للقرافى.
والسر فى جودة أدوات الفقه الإسلامى أن القاضى أو المفتى يستطيع من خلالها التوصل لحلول مرنة جدا بمعايير منضبطة جدا حتى بالنسبة للقانون الوضعى.. فالمدارس الغربية مثلا تلجأ للأعمال التحضيرية للقانون.. ويقابلها فى أصول الفقه فكرة المقاصد واستقراء الأحكام، وهى أفكار حقق فيها علماء الأزهر بمؤلفاتهم وتطبيقاتهم تجديدا واسعا.
منهج البشري في الفكر والكتابة
في مقدمة كتاب البشري، بين الإسلام والعروبة، الصادر عن دار الشروق 2005، يقول البشري، نحن لا نختار العروبة ولا تختار الاسلام فهما مضروبان علينا، والقطرية مضروبة على كل من المصرى والعراقى والمغربى، كل فى دياره، كما أن الانسان لايختار لغته ولا يختار أباه وأمه لكن اختيارنا يتأتى من زاوية اخرى. هى كيف نضع الواحد من هذه العوامل ازاء الاخر؟ هل نقيمها فى وضع التنافى أو فى وضع التكامل؟ فى هذا المجال نستطيع ان نعمل ارادتنا، وأن نحقق ما نصبو اليه، واضعين فى حسابنا الملاءمة التاريخية وتقدير الظروف الملابسة”
مقدمة كتاب بين الإسلام والعروبة، تصلح لأن تكون عنوانا مختصرا لمنهجية البشري في مؤلفاته، بكيفية وضع العوامل والفاعلين والمؤثرات إزاء بعضها وفي أي وضع؟ مستهدفة العمل بإرادة حرة لتحقيق الأهداف المرجوة، مع تقدير حسابات الملائمة التاريخية وتقدير الظروف الملابسة، وهي نفس المنهجية التي تجلت بوضوح في كتب “الحوار الإسلامي العلماني- الدولة والكنيسة- المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية-.
يمكننا القول دون جسارة، إن كتابات البشري ومؤلفاته في الشأن العام والتأريخ والتدوين إنما استهدفت تشكيل تيار أساسي للأمه -الجماعة الوطنية- وفق ما رصده هو في مقدمة كتابه نحو تيار أساسي للأمة، بقوله “التيار السياسي الأساسي الإطار الجامع لقوى الجماعة والحاضن لها، وهو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، إنه ما يعبر عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة (….) امتدادا لحركة المشروع الوطني العام الذي تمت بلورته عن طريق الاستخلاص من الواقع الحي للحركة السياسية والثقافية القائمة في المجتمع.