نبيل فهمي وزير الخارجية السابق يكتب: الدول القوية
كتبت منذ أسابيع قليلة مقالا على هذا الموقع تضمن عشر رسائل لأمريكا، من واقع تجربتى الممتدة هناك، ومتابعتى للتوجهات السياسية لترامب وبايدن وتباين خطابهم السياسى، رسائل تعبر عن رؤية وتطلعات شرق اوسطية عربية لما يجب أن تفعله اقوى دولة فى العالم فى القرن الـ 21.
وأعتقد أن هناك توافقا عاما بين المحبين والكارهين للولايات المتحدة انه سيظل لها نفوذ كبير على الساحة الدولية لعقد أو عقدين من الزمن على اقل تقدير، إلا أن المعادلة السياسية الدولية تتغير باستمرار وبمعدلات أسرع الان، مع تعدد مراكز القوى على حساب نظام القطبين او القطب الاوحد، مما يفرض علينا التخطيط للمستقبل بشكل مختلف ومتعمق، بصيانة العلاقات مع العديد من الدول لضمان تعدد الخيارات والبدائل، خاصة والمجتمع السياسى الدولى يتجه نحو «اقلمه» القضايا والنزاعات على حساب القضايا «العالمية أو الكونية» الجاذبة تقليديا للقوة الكبرى، والتى كانت سائدة فى عصور سابقة، والسؤال هو من هى القوة القادمة ولمن تعطى الأولوية فى تحركنا، وعلى أى أساس؟
أؤمن وبقوة ان اولوية الدول المتوسطة والصغرى يجب أن تكون لحساباتها الإقليمية وجيرانها بشكل خاص، فهم الاقرب اليها والارجح ان يكونوا أطراف فى قضايا الحرب والسلام والتحديات الوجودية، وهو ما ألح عليه كثيرا فى الحديث عن العالم العربى، تأمينا لمصالحنا، ومن اجل التصدى للمخاطر، فعلى سبيل المثال الأولوية الاقليمية المصرية عربية وافريقية وشرق أوسطية، والأولوية الاقليمية الجزائرية عربية وافريقية وأوروبية، والأولوية الإقليمية السعودية عربية وخليجية وآسيوية.
غير أن عصر العولمة يفرض علينا أيضا توسيع ساحة التقييم والأولويات، واتساقا مع هذا نشهد سباق بين المحللين السياسيين لتحديد القوة الكبرى أو لأكثر نفوذا فى المستقبل المنظور، مرجحين بين الحين والآخر معيار القوة العسكرية كعنصر أساسى، ومفضلين أحيانا التركيز على القوة والثراء الاقتصادى المحتمل، وانتهت هذه الدراسات والابحاث إلى ان الولايات المتحدة والصين هما أقوى دول العالم سيظلان كذلك بالمعايير العسكرية أو الاقتصادية، فى حين حصلت روسيا على الترتيب الثالث عسكريا والتاسع فقط اقتصاديا، حيث سبقتها أيضا اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والبرازيل وايطاليا، والملفت من هذه القوائم أن ثمانية من الدول العشرة الأولى وفقا للمعيار الاقتصادى من دول اقتصاد السوق، وان الدول الأربعة الأقوى وفقا للمعيار العسكرى هى دول الصراعات الكبرى بالإضافة إلى الهند صاحبة الحدود المتسعة واحيانا المتوترة، والتى كانت الدولة النامية الوحيدة ضمن العشرة الاوائل فى القائمتين العسكرية والاقتصادية.
ورغم وجاهة الكثير من هذه التقديرات، وبعد الاطلاع على العديد من الأبحاث، ومراجعة المعايير المستخدمة، وجدت انه من الاهمية بمكان التنويه ببعض المعايير الاضافية لأهميتها وضرورة عدم إغفالها، فى بلورة نظرتنا المستقبلية وبلورة خلاصتنا عن قوة المستقبل ومن يتم الرهان عليهم، ألا وهى:
أولا: أن القدرة العسكرية ستظل معيارا هاما فى تقييم قوة الدول، وخاصة القدرات التكنولوجية المتطورة فى مجال الحصول أو التأثير على المعلومات كعنصر استباقى قوى، وكذلك من لديه تكنولوجية الاتصال والتوجيه عن بعد، مما يخلق رادعا قويا ويخفف فى نفس الوقت من مخاطر وحجم الخسائر الوطنية للدولة المستخدمة للسلاح، والعقود الثلاثة الاخيرة شهدت اهتماما متزايدا بهذه التكنولوجيا من الدول العظمى وغيرها، فى تحرير الكويت وأخيرا ضد أهداف تكتيكيا إيرانية فى سوريا، واثيرت هذه التكنولوجيا أيضا فى النقاش الدائر عن مخاطر اسلحة الدمار الشامل فى الشرق الاوسط واسيا، ويجب عدم إغفال أن تطوير كوريا الشمالية لقدراتها فى هذا المجال أثار حفيظة حلفاء أمريكا، فضلا عن تنامى وتعدد وتنوع برامج استغلال الفضاء الخارجى لدول عديدة له أيضا دلالات هامة على رؤية المؤسسات العسكرية على المستوى العالمى نحو المستقبل، بصرف النظر عن أن القدرات العسكرية البرية ستظل لها أهميتها، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على المواقع على الأرض.
ثانيا: أن للثقل الاقتصادى مكانة مهمة فى تقييم قوة الدولة، ولعل تفكك الاتحاد السوفيتى أوقع مثال على انهيار الدولة والمؤسسات رغم ضخامة المنظومة العسكرية والأمنية نتيجة لضعف القدرات الاقتصادية، وعدم قدرتها على تحمل أعباء الصرح العسكرى الضخم.
ثالثا: بالإضافة إلى القوة العسكرية والاقتصادية هناك عنصر هام للغاية وهو قوة وصلابة المؤسسات الوطنية للدولة، لأن توافر القوة بمعناها العسكرى أو الاقتصادى يفرض واقع ويخلق طموحات ومنافسات وتحديات، تتطلب قرارات قيادية صعبة وتوافر مؤسسات ومنظومة سياسية قوية ومتكاملة، فلا توجد دولة غير مهددة من الخارج بل وأحيانا من الداخل، والاتحاد السوفيتى انكمش وتفكك قبل أن تعيده المؤسسات الأمنية السيادية فى شكل مصغر ومختلف كدولة روسيا بعد أن فقدت أجنحة عديدة، كما تعرضت المؤسسات الأمريكية لتحدى فريد عقب نهاية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مما جعل وزير الدفاع الأمريكى يعلن أن المؤسسة العسكرية لن تتدخل فى النزاع الانتخابى وانها ستترك حسمه للمؤسسات المدنية، وفى منطقتنا شهدت الثورات العربية فى تونس وليبيا ومصر واليمن تجارب و مراحل ونتائج مختلفة، انهارت منها بعض الدول مع انكسار المؤسسات، واتخذت منها المؤسسات العسكرية دور الحياد أحيانا، وتحولت لدور الحامى فى ظروف اخرى عندما هددت هوية الدولة، مما حافظ على كيانها وساهم فى سرعة إعادة الاستقرار الوطنى.
رابعا: مدى استعداد الدولة بمؤسساتها و الرأى العام استخدام قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية خارج حدودها، لبسط نفوذها وحماية مصالحها والحفاظ على امنها القومى، كان ذلك فى سياق التأثير على او ضبط و تشجيع التنمية، أو التصدى للتحديات ومخاطر أمنية، وتحديد توجهات سياسية معينة، علما ان الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية هم الذين شكلوا مؤسسات النظام الدولى الحالى، فى منظومة الأمم المتحدة السياسية، ومؤسسات Breton Woods والبنك الدولى وصندوق النقد أو منظمة التجارة العالمية الاقتصادية، فضلا عن الحلف الأطلنطى ومنافسها السابق حلف وارسو، وينطبق نفس الشىء على جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقى على المستوى الإقليمى، والتى كانت للدول الريادية الإقليمية الدور الرئيسى فى بلورتها، لحماية وصيانة مصالحها من خلال تعاون اقليمى.
والخلاصة من كل ذلك هى أنه فى النظر نحو المستقبل، خاصة فى عصر متعدد الأقطاب، لا يمكن إغفال الإمكانيات المادية للدول، فهى تشكل جزءا مهما فى تقييم قوتها، وإنما من الضرورى ايضا اعطاء اكبر الاهتمام لمتانة المؤسسات الوطنية، وعزيمة الدولة، واستعدادها للتفاعل والاشتباك اقليميا ودوليا، فى التنمية، والسياسة، والأمن، والاستقرار، لأنه التقييم الاوقع والادق للدولة القوية التى يفضل التعاون معها مستقبلا كان ذلك على المستوى الدولى او الاقليمى.