مصطفى الفقي يكتب: الألمان والعرب رؤية تاريخية
الأمة الألمانية هى قلب أوروبا تاريخيا وعمودها الفقرى اقتصاديا، وطرف أساس فى الحربين العالميتين الأولى والثانية بدوافع لا تخلو من عنصرية تحت مسمّيات تتحدث عن الجنس الآرى وتميّزه عن غيره، وتذهب العلاقات العربية الألمانية إلى فترات بعيدة تمتد من العصور الوسطى وتعتمد أساسا على الفكر والثقافة اللذين تتميز بهما الأمتان الألمانية والعربية، ولكن أكثر فترات التقارب جاءت فى القرن العشرين عندما وقف العرب فى الصف الآخر من جبهتى الحرب العالمية الأولى فى ظل الوعود البريطانية الزائفة لمنح الدول العربية استقلالا يسمح بتنصيب الشريف حسين ملكا على العرب.
ونعلم جميعا أن ذلك لم يحدث، واتهم العثمانيون دائما العرب بخيانتهم فى الحرب العالمية الأولى، كما نظر الألمان إليهم نظرة شك استمرت حتى وصول النازيين إلى السلطة وبزوغ نجم أدولف هتلر والدخول فى أجواء الحرب العالمية الثانية التى توهّم الألمان أنهم يدخلونها للثأر من الهزيمة التى لحقت بهم فى الحرب الكونية الأولى. وهنا أتذكر تلك الاتصالات العربية الألمانية التى حاول من خلالها طرف فلسطينى الاقتراب من الزعيم النازى وإقناعه بدعم المفتى أمين الحسينى بعد ثورات فلسطينية فى الثلاثينيات ضد التوسع اليهودى فى فلسطين، ويجب أن نعترف هنا أن الحسينى لم يكن نغمة نشاز يعزفها وحده، بل كانت شعبية هتلر متزايدة فى عدد من الدول العربية التى كانت ترى أنه المنقذ من السيطرة البريطانية الفرنسية. ولعلنا نتذكر رشيد على الكيلانى وثورته فى العراق ومجموعة على ماهر وعزيز المصرى وأحمد طلعت وغيرهم ممن كانوا يتعاطفون مع وجهة النظر الألمانية لا حبّا فى الألمان، ولكن انتقاما من سطوة الإنجليز، بل إن الرئيس المصرى الراحل أنور السادات محسوب هو الآخر على ذلك التيار الوطنى.
لقد بلغ من شعبية هتلر فى عز انتصاراته أن كثيرا من العرب أطلقوا اسمه على أبنائهم كما كان بعضهم يلقبّه بـ«الحاج محمد هتلر»، وما زلنا نتذكر المحاولة التى لم تنجح عندما رأى عزيز باشا المصرى إمكانية استخدام إحدى الطائرات للوصول إلى ما وراء خطوط الحلفاء فى الفيلق الأفريقى لدعم «روميل ثعلب الصحراء»، الذى كان منتصرا فى ذلك الوقت قبل أن ينجح مونتجمرى فى اكتساح القوات الألمانية وتغيير مسار الحرب لصالح الحلفاء فى مواجهة دول المحور. إننا هنا بصدد حوار سياسى متداخل بين الألمان والعرب.
أتذكر الآن أن حكومة الوفد أوفدت عبدالخالق باشا حسونة، محافظ الإسكندرية برسالة تحية وترحيب إلى القائد الظافر روميل فى أوج انتصاراته، ولكن مهمة الأول لم تتم لأن ميزان المعركة كان قد تحوّل لصالح الحلفاء، ولعل تلك المحاولات المصرية أو الفلسطينية أو العراقية وربما السورية أيضا إنما هى نوع من التعلق اليائس بـ«الرايخ الثالث» عندما اكتسح هتلر معظم الدول الأوروبية قبل أن يتحول ميزان القوى فى غير صالح جيشه. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، أفاق العرب على حقيقة أن غياب الحريات فى أى نظام لا يضمن صموده واستمراره. وأتذكر الآن نادرة لا أنساها
وهى أن ضابطا مصريا كبيرا كان اسمه هتلر، ومن المفارقات الساخرة أن مصر رشحته ملحقا عسكريا فى بون، عاصمة ألمانيا الغربية ويومها قامت الدنيا ولم تقعد، فجرى تغيير قراره ليكون ملحقا عسكريا لدى أشقائنا فى الخرطوم، وقد تبوّأ الرجل بعد ذلك موقعا رقابيا وأمنيا مهما، ولكن تسميته تحمل دلالة حماسة ذلك الجيل الذى عاصر الحرب العالمية الثانية وتأثر بانتصارات هتلر وجيشه، الذى كان يكتسح الدول الأوروبية الصغيرة بشكل غير مسبوق، والآن دعنى أطرح القضايا الآتية:
أولا: إن الشخصية الألمانية بطبيعتها شخصية حادة وجادة، ولعل ذلك سر نجاح الألمان صناعيا واقتصاديا، لأن درجة الانضباط لديهم ليست محل نقاش، ولذلك انبهر العالم بالتعليم الألمانى والتدريب المهنى لديهم وقدرتهم على القيام بعد كل سقوط، فالألمان منظمون بالطبيعة، جادون بالفطرة، وقد يكون كثير من صفاتهم عكس الصفات العربية، ولكن ذلك لا ينفى الإعجاب العربى على مستوى رجل الشارع بالمنتجات الألمانية والسلع الواردة منها فى كل المجالات.
ثانيا: لقد ابتزت إسرائيل الدولة الألمانية لسنوات طويلة تحت مسمّى التعويضات التى تدفعها ألمانيا للدولة العبرية تعويضا عن جرائم الحرب العالمية الثانية وأفران الغاز التى تحمل اسم «الهولوكوست». وتمادت الأولى فى استنزاف خزانة الأخيرة لسنوات طويلة، وكان من الطبيعى أن يمتدّ ذلك الابتزاز إلى الجانب السياسى أيضا، فظلت ألمانيا الغربية قبل سقوط حائط برلين مؤيدة لسياسات إسرائيل بحكم الظروف والأحداث التى خلّفتها ذكريات الحرب العالمية الثانية، فى وقت كانت ألمانيا الشرقية تدور فى فلك الاتحاد السوفيتى السابق وتُعتبر نصيرا للقضية الفلسطينية وللشعب الذى يكافح من أجل الحرية والاستقلال. وبسقوط الاتحاد وتحطيم حائط برلين وميلاد الوحدة الألمانية، بدأ التحول الواضح فى سياسات العاصمة المركزية برلين تجاه القضايا الدولية والقومية بل والعلاقات «الأوروبية ــ الأوروبية»، وقد بلغت السياسة الألمانية قمة نجاحها فى ظل رئاسة المستشارة أنجيلا ميركل الآتية من ألمانيا الشرقية، التى اتخذت مواقف مستقلة فى كثير من القضايا الأوروبية المعاصرة، وفى مقدمتها قضية اللاجئين.
ثالثا: تلعب ألمانيا دورا قويا فى مشاريع التنمية الاجتماعية ومحاولات تحسين أوضاع المعيشة والارتقاء بالبيئة والنهوض بالتعليم تحديدا، وما زلنا نذكر برنامج «مبارك ــ كول» للارتقاء بالعملية التعليمية والجوانب التدريبية فى مصر مع أفكار موازية فى دول عربية أخرى. وبهذه المناسبة، نحن نتذكر أن المدارس الألمانية أطلقت نشاطا مكثفا وناجحا منذ بدايات القرن العشرين، خصوصا فى القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن الكبرى فى العالم العربى، كما أننا ندرك الدور الذى قامت به المؤسسات التنموية الألمانية والمنح التى قدّمتها إلى الشباب العربى فى المجالات جميع سواء تعلّق الأمر بألمانيا الشرقية أو نظيرتها الغربية قبل سقوط حائط برلين أو بعد تحقيق الوحدة التى شارك فى الدفع إليها المستشار الألمانى الراحل هيلموت كول.
رابعا: إن ألمانيا وهى تتصدر الدول الصناعية الكبرى فى العالم باقتصاد قوى تعتمد عليه سلة العملات الأوروبية فى ظل الاتحاد الذى خرجت منه بريطانيا باستفتاء شعبى، فكان الدعم الألمانى هو السند الأكبر لاستمرار ذلك الاتحاد من الناحية المالية والنقدية فى ظل سياسات أوروبية تتطور وفقا للأحداث وتبعا للظروف.
خامسا: لعله يبدو عجيبا وغريبا أن قوة اقتصادية هائلة مثل ألمانيا لا تلعب دورا سياسيا مؤثرا فى الأمم المتحدة لأنها ليست من الدول الخمس الكبار، وكأنما تدفع حتى الآن ضريبة العصر النازى بكل ما عليه والرواسب التى تركها فى العقل الإنسانى. وأتذكر الآن أن الرئيس النمساوى الراحل كورت فالدهايم، أمين عام الأمم المتحدة لفترتين متتاليتين طلب منى فى منتصف تسعينيات القرن الماضى أن أكتب له مقدمة الطبعة العربية لكتابه الذى ردّ فيه على الاتهامات اليهودية بأنه من رجال النازى، والغريب أن ذلك الدبلوماسى المتألق الذى شغل منصبين (رئاسة الجمهورية فى بلاده والأمين العام للأمم المتحدة) كان محروما فى سنواته الأخيرة من دخول الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى الشائعات التى طاولته حول حماسته للنازى فى سنوات شبابه. ونحن لا ننسى هنا أن الأمم المتحدة هى حلف المنتصرين، ولم تكن أبدا مؤسسة متكافئة تعبّر عن المجتمع الدولى برمّته باستثناء بعض المداولات فى الجمعية العامة على مر السنين.
من هذا السياق، نرى أن خصوصية العلاقات العربية الألمانية تستحق الدراسة والتأمل، وأننا نحن العرب مطالبون بفتح جسور قوية مع كثير من دول العالم، بينها ألمانيا التى جسّد شخصيتها الفيلسوف نيتشه فى رسالته الشهيرة التى تعبّر عن شخصية الألمان وفكرهم العميق وطبيعتهم الجادة.
وفقا لإندبندنت عربية
ونعلم جميعا أن ذلك لم يحدث، واتهم العثمانيون دائما العرب بخيانتهم فى الحرب العالمية الأولى، كما نظر الألمان إليهم نظرة شك استمرت حتى وصول النازيين إلى السلطة وبزوغ نجم أدولف هتلر والدخول فى أجواء الحرب العالمية الثانية التى توهّم الألمان أنهم يدخلونها للثأر من الهزيمة التى لحقت بهم فى الحرب الكونية الأولى. وهنا أتذكر تلك الاتصالات العربية الألمانية التى حاول من خلالها طرف فلسطينى الاقتراب من الزعيم النازى وإقناعه بدعم المفتى أمين الحسينى بعد ثورات فلسطينية فى الثلاثينيات ضد التوسع اليهودى فى فلسطين، ويجب أن نعترف هنا أن الحسينى لم يكن نغمة نشاز يعزفها وحده، بل كانت شعبية هتلر متزايدة فى عدد من الدول العربية التى كانت ترى أنه المنقذ من السيطرة البريطانية الفرنسية. ولعلنا نتذكر رشيد على الكيلانى وثورته فى العراق ومجموعة على ماهر وعزيز المصرى وأحمد طلعت وغيرهم ممن كانوا يتعاطفون مع وجهة النظر الألمانية لا حبّا فى الألمان، ولكن انتقاما من سطوة الإنجليز، بل إن الرئيس المصرى الراحل أنور السادات محسوب هو الآخر على ذلك التيار الوطنى.