موكب المومياوات.. باحثة آثار: سعيدة بالحدث الذي جمعنا لكني حزينة لأنها ستغادر متحفي المفضل
سيكون ميدان التحرير الشهير وسط القاهرة نقطة انطلاق حدث مهم اليوم؛ إذ ستُنقل 22 مومياء لملوك وملكات مصر القديمة من المتحف المصري الموجود في هذا الميدان، إلى مكان إقامتها الجديد في المتحف القومي للحضارة في الفسطاط في القاهرة القديمة.
سيجتاز “الموكب الفرعوني” شوارع القاهرة مدة ساعة قاطعا مسافة قدرها 7 كيلومترات تقريبا، وستمر العربات المصممة بالطراز الفرعوني حاملة نعوشا زجاجية مؤمّنة عبر كورنيش النيل لتنتهي رحلة الموكب مع غروب الشمس.
ووُصفت هذه “الرحلة الذهبية” في الإعلان الترويجي، الذي جاء على لسان الممثل المصري الشهير حسين فهمي، بأنها “حدث نادر يحصل مرة واحدة فقط في العمر”.
الباحثة في آثار وتاريخ مصر القديمة، هبة عبد الجواد، 36 عاما، والتي تسكن قرب ميدان التحرير، قالت لبي بي سي نيوز عربي إن شكل الميدان مفرح هذه الأيام؛ فقد أصبح منيرا وضاجا بالحياة، وزاد تجمّع المصريين المتحمسين لالتقاط الصور ومشاهدة التغييرات فيه والاستعدادات للحدث.
كما أعجبها نصبُ مسلّة في الميدان إلى جانب تماثيل أربعة أكباش، وتصميمُ طريق طويل يمتد من بوابة المتحف وحتى الميدان على شكل ريشة الآلهة ماعت (رمز العدالة)، ووضعُ صور الملوك الـ18 والملكات الأربع، وإعادة إحياء الأشجار والنباتات التي كانت موجودة في مصر القديمة مثل اللوتس والبردي.
لكنها شخصيا حزينة بعض الشيء، ليس فقط لأن المومياوات ستغادر متحفها المفضَل، الذي تصفه بأنه “أم متاحف المصريات في العالم”، بل أيضا لأنها كانت تودّ الخروج في الموكب لوداع الملوك والملكات، لكنها لن تتمكن من المشاركة بسبب الظروف التي فرضها وباء كوفيد-19، لذا ستشاهد ما سيجري عبر شاشة التلفاز.
كانت هبة تودّ اختبار تجربة مماثلة لما عاشته عام 2006 عندما نقل تمثال رمسيس الثاني الضخم جدا من ميدان لآخر.
“لا يزال ذاك الحدث محفورا في ذاكرتي. كان تمثالا ضخما نُصب في الخمسينيات قرب محطة سكة الحديد، ووضع مهندس مصري فكرة هندسية عظيمة لنقله إلى المتحف المصري الكبير في ميدان الرماية. بدأ الحدث من الفجر واستمر حتى صباح اليوم التالي، ومر التمثال بأنحاء القاهرة. نزلت يومها، ونزل كثير من الناس إلى الشوارع لتحية التمثال. كان من أجمل الأشياء التي رأيتها في مصر”.
“جنازة ثانية”
تفضّل هبة، الحاصلة على شهادة دكتوراه من جامعة ( UCL) البريطانيّة، تسمية الحدث بأنه “موكب جنائزي للملوك والملكات”، كي لا يأخذ طابعا احتفاليا.
وتوضّح فكرتها: “عندما نقول موكب جنائزي فنحن نركز على أننا نتعامل مع بقايا آدمية لأجدادنا وجثث أموات، لا قطع أثريّة”.
لذلك أعجبها التأكيد، في الفيديو الترويجي، على أن قاعة عرض المومياوات في متحف الفسطاط ستكون “من أهم قاعات المتحف” وأن فيها أحدث تقنيات العرض وأفضل طرق العناية بالمقتنيات، وأن المومياوات “ستعرض بطريقة تحفظ مكانتها الملكية وحرمتها”.
كما تذكر هبة أن النقاش حول طريقة عرض المومياوات ليس بالجديد، فالرئيس أنور السادات، مثلا، كان قد عقد مؤتمرا صحفيا كبيرا عبّر فيه عن عدم رضاه على طريقة عرض المومياوات، لذا بقيت غرفة المومياوات المصرية في المتحف مغلقة طيلة فترة حكمه، حتى أعيد افتتاحها عام 1993، وفقا لهبة.
رمزية المرور بالنيل
كان أغلب هذه المومياوات قد اكتشف في خبيئتين في القرن التاسع عشر (أي مخبأين للتوابيت، وأحد تفسيرات وجود الخبيئة هو الخوف من سرقة المقابر).
أعلن عن اكتشاف الخبيئة الأولى في الأقصر سنة 1881؛ في حين اكتشفت الثانية عام 1898 في مقبرة امنحوتب الثاني بوادي الملوك بالأقصر.
أرسلت لي هبة هاتين الصورتين من أحد المعارض التي كانت قد شاركت بها أثناء وجودها في بريطانيا، وتقول إنهما “الدليل الوحيد في العالم الذي يوثق إخراج المومياوات في الأقصر” وكان ذلك الحدث مهما جدا.
وتقول إنه لم يكن هناك مصوّر لتوثيق ما جرى، لذا قامت الرحّالة الإنجليزيّة المهتمّة بجمع القطع الأثرية، ماريان بروكلهرست (Marianne Brocklehurst)، برسم ما رأته، ورسمت نفسها على يمين الصورة، مع نساء أخريات يرتدين الزي الفيكتوري البريطاني ويحملن مظلات.
وعن سبب عدم جودة الصورتين، تقول هبة إنهما صُوّرتا بكاميرا عادية، لأن الألوان أثرية وأرادوا الحفاظ عليها.
إذا، فهذه المومياوات الـ22 قد مرت برحلتها الأولى من القصر إلى المدافن في زمن مصر القديمة، ثم كانت رحلتها الثانية في نهاية القرن التاسع عشر من المقابر المكتشفة إلى المتحف الموجود في ميدان التحرير والذي افتتح عام 1902، وستكون هذه الرحلة عام 2021 من القرن الواحد والعشرين هي الرحلة الثالثة: من متحف ميدان التحرير إلى متحف الفسطاط.
وهناك رمزية لمرور موكب المومياوات قرب نهر النيل – رغم أن السائد كان استخدام المراكب عبر النيل لنقل جثامين الملوك والملكات المحنّطة من القصر إلى مكان الدفن حيث تغرب الشمس.
أسأل هبة عن هذه الرمزية، وماذا لو لم يكن هناك من داع للمرور عبر النيل للوصول إلى المدفن.
فتشرح لي أنه في حضارة مصر القديمة كان الأحياء يعيشون على ضفة والأموات على الضفة الأخرى، لذا كان لابد من نقل التابوت عبر النيل.
وتقول: “نرى رسوما ونقوشا على جدران المقابر في أيام مصر القديمة تظهر المصريين مصطفين على طول الضفتين لتقديم الوداع الأخير لأية جنازة سواء أكانت لملك أو لأي فرد عادي. والطقوس الجنائزية الحالية لدينا ترجع إلى فترة مصر القديمة”.
وتضيف أنه منذ اكتشافات القرن التاسع عشر، فرض القانون نقل كل المكتشفات إلى المتحف، لذا كانت تنقل عبر النيل وكان المصريون عندما يرون الموكب وعليه التوابيت يقفون لتحيته ووداعه “كانت جنازات شعبية.. مثل جنازات عبد الحليم وأم كلثوم في زمننا”.
“رابط عاطفي” مع المتحف المصري
تتحدث هبة بحب كبير عن حضارة مصر القديمة وعن طقوس المصريين والآثار والتماثيل وتقول إن رابطا عاطفيا قويا يجمعها بالمتحف المصري في ميدان التحرير منذ أيام الطفولة؛ فمدرستها كانت في حي الزمالك، لذا كان عليها اجتياز الكوبري (الجسر) كل يوم والمرور بالمتحف المصري الذي يبعد مسافة 10 دقائق مشي عن بيت عائلتها.
ولأنها أحبت التاريخ والآثار، درست “المصريات” في جامعة حلوان مدة أربع سنوات، وكانت تذهب أسبوعيا لمتحف ميدان التحرير لحضور مادة دراسات متحفيّة. ولشدة “عشقها” للمكان، كانت تتطوع للعمل فيه صيفا، كما أمضت أشهرا فيه أثناء جمعها بيانات لمشروع الدكتوراه، وشاركت بعدة مشاريع عرضت فيه.
لذلك تخشى أن تتراجع أهميته اليوم مع مغادرة هذه المومياوات الملكية قاعاته – علما أن الفيديو الترويجي لهذا الحدث طمأن المصريين بهذا الخصوص: “حيفضل متحف مصر في مكانه الأيقوني مفتوحا للزوار من جميع أنحاء العالم للاستمتاع بعظمته”.
أسأل هبة عن المومياء المفضّلة لديها.
لكنها ترسل لي صورة تمثال صغير، لا مومياء، وتتكلم عنه بحب كبير.
هذا التمثال تمثال غير ملكي، بل يعود لعامل يحمل ما يعتقد أنه أول تمثيل لحقيبة ظهر في العالم كله، ويظهر التمثال مدى دقة الفنان المصري القديم.
“للأسف لا نعرف أسماء هؤلاء العمال رغم أنهم هم من بنى مصر وشيّد المعابد ومن ترك لنا كل هذا الفن الرائع”، كما تقول هبة.