نبيل فهمي يكتب: النظام الدولى.. إلى أين؟
هل هناك تغيير فى نقطة ارتكاز النظام الدولى المعاصر؟ وإذا صح ذلك إلى أين؟
أسئلة هامة لها تأثير مباشر على مصالح دول العالم وأمنها القومى؟
شكل النظام الدولى عقب الحرب العالمية الثانية وكانت للدول المنتصرة الدور الرئيسى فى بلورته، لذا تمحور حول اولوياتهم ومنافستهم، وأصبحت الساحة الأوروبية هى نقطة الارتكاز الأولى، باعتبارها ساحة المواجهة المباشرة بين حلفاء الماضى الذين افترقوا أيديولوجيا بين قطبين احدهما شرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى، والآخر غربى بريادة أمريكية للحلف الأطلنطى، ومنها امتدت المنافسة عبر القارات العالم وبحاره.
تطور وتفاعل النظام الدولى مع حصول العديد من الدول النامية على استقلالها، ومع تفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار حلف وارسو، فزاد الحديث عن عالم القطب الواحد الأمريكى، وعن الفرص والتحديات والساحات الجديدة فى إطار عصر العولمة، بما فى ذلك عن منطقة متلاصقة وممتدة من آسيا وأوروبا تسمى يوراسيا، وهى ساحة كانت تعتبرها الصين تاريخيا مرتع طبيعيا لها.
ولا جدال أن روسيا مازالت دولة مهمة وفعالة، وإنما لم تعد الدولة الكبرى المناظرة للولايات المتحدة، أو حتى الصين مستقبلا، وستظل أمريكا دولة عظمى واسعة النفوذ والتأثير طويلا، وانما حتى هى ايقنت أن عالم متعدد الأطراف لا يعطى لها وضعية مميزة فريدة، تسمح لها باستمرار فرض آرائها على النظام الدولى.
ومع الصعود المذهل للماكينة الاقتصادية الآسيوية، فى اليابان ثم فى عدد من الدول الاسيوية الاخرى، والانطلاقة الاقتصادية الصينية المذهلة، أصبحت اسيا الآن موطن لأكثر من 65 % من الطبقة الوسطى فى العالم، وتوافر لديها فائض مالى وقدرات استثمارية هائلة، تتجاوز حتى القدرات الاستيعابية لأسواقها الضخمة، مما جعلها تنشط وتتفاعل دوليا بمعدلات أكبر عما مضى، وأصبحت آسيا جاذبة للدول الباحثة عن التمويل الخارجى، وتوافق البحث الآسيوى عن مشروعات استثمارية مع سعى بعض الدول لجذب الاستثمارات الخارجية، ومن الملفت ان الرئيس الأمريكى الجديد طرح أخيرا على رئيس وزراء بريطانيا فكرة التقدم بمبادرة مماثلة.
المستجدات على التوازنات الدولية والاقليمية جعلت العالم ينظر إلى اسيا كنقطة الارتكاز الاقتصادية الدولية القادمة، وتحدث الرئيس أوباما عن التحول نحو آسيا، وتفاوض ترامب بشكل مباشر مع كوريا الشمالية وكذلك مع الصين، فضلا عن الانفتاح على الهند، والمؤشرات الأولى للإدارة الأمريكية الجديدة تعكس أيضا اهتماما بالغا بالصين، حيث بادرت بعقد اجتماعا دبلوماسيا عاصفا بين كبار المسئولين البلدين، كما اتفقت والاتحاد الأوروبى على إعادة تنشيط منتدى الحوار الصينى لتنسيق علاقاتهما.
كانت الصين تؤكد على أنها لا تطلع لريادة العالم سياسيا، وأنها لن تتبنى سياسات هيمنة اقليميا، وإنما هناك تحول ملحوظ فى نبرة الخطاب والحراك الصينى، بما يعكس ثقة متنامية واستعدادا جديدة لتحمل مسئوليات دولية مختلفة، فتحدث رئيسها عن قيادة إصلاح النظام الاقتصادى الدولى امام كبرى شركات دول اقتصاد السوق، وطرح مشروع الحزام والطريق العملاق عابر القارات، وشهدنا فى الاعوام الاخيرة ممارسات دبلوماسية صينية تصادمية غير تقليدية، وتبادل كبار المسئولين الصينيين اللكمات الدبلوماسية مع نظرائهم فى إدارتى ترامب وبيدن، وطرح وزير خارجية الصين طرح منذ أسبوع واحد مبادرة من خمس نقاط حول الشرق الأوسط، تتضمن النية فى دعوة مسئولين اسرائيليين وفلسطينيين لبكين للتشاور حول تحقيق السلام، ووقعت الصين اتفاق تعاون استراتيجى مع إيران.
اهتمت بعض دول الشرق الاوسط بمراجعة أوضاعها وتقويم سياساتها باستمرار، ليس للابتعاد عن الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا لصالح الصين فحسب، وإنما للأخذ فى الاعتبار الواقع السياسى والاقتصادى المتجدد باستمرار وضمان تعدد الخيارات أمامها، وينطبق ذلك حتى على أقرب المقربين للولايات المتحدة مثل إسرائيل وتركيا.
قامت إسرائيل بذلك منذ النصف الأخير من القرن الماضى رغم الحساسية المفرطة للقادة العسكريين الأمريكيين، والذين تابعوا بقلق الخطة تطوير التعاون مع الصين فى المجال العسكرى، وكانت من أشهر الخلافات محاولات إسرائيل بيع رادار «فالكون» المصنع بتكنولوجيا أمريكية للصين عام 1990، وتكرر الخلاف والتوتر مرة أخرى عام ٢٠٠٠ عندما سعت اسرائيل للتعاون مع الصين فى تطوير أسلحة «هاربى» المدارة عن بعد.
ومع هذا شهدنا تنامى كبير فى التعاون الاسرائيلى الصينى فى مجال التصدى للإرهاب، وارتفاع كبير فى التبادل التجارى والاستثمارات، خاصة فى مجال البنية الأساسية والموارد والتكنولوجيا، وقد أثار النشاط الصينى فى مجال البنية الاساسية وخاصة الموانئ تحفظ ملموس من الجانب الأمريكى.
من ناحية أخرى ظلت تركيا عضو الحلف الأطلنطى فى مراجعة مستمرة فى مواقفها وتوازناتها ونقطة انطلاقها الدولية، وتكرر الحديث عن أهمية الابتعاد تدريجيا عن الغرب واوروبا التى لم ترحب بها، ورغم أن تركيا لم تنسحب من الحلف، اقتربت كثيرا لروسيا واشترت اسلحة فتاكة من العدو الأكبر له، ويذكر أن رئيس وزرائها السابق ذو الميول اليسارية بولنت اكتفت كان قد طرح فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى فكرة عدم الاعتماد المبالغ فيه على الغرب وخاصة أوروبا.
وفى العقدين الماضيين أظهرت تركيا اهتماما كبيرا بجنوب القوقاز والبلقان والبحر الأبيض وبالساحة اليورو آسيوية، مع تولى حزب AKP السلطة عام 2003، وانتهزت الفرصة التى وفرها الفراغ السياسى الذى تركه انهيار الاتحاد السوفيتى، وخلقت ممرا بريا مباشرا لبحر القزوين من خلال أذربيجان، وفى مشرق العالم العربى زادت من التواجد العسكرى فى سوريا والعراق وفى شمال افريقيا توغلت إلى ليبيا، وجنوب الصحراء فى الصومال، وبذلك تكون قد استغلت الفرص السياسية دوليا، وانتشرت إقليميا فى ظل الفضاء السياسى العربى السائد خلال العقد الأخير.
هناك اعتماد صينى واسع ومتنامٍ على طاقة الشرق الاوسط وخاصة من إيران، واستمرار البلدين فى التجارة فى هذا المجال رغم العقوبات المفروضة على إيران، وهو ما توافق مع التوجه الايرانى ايضا، وطموحات البلدين خلال الأعوام القادمة وفقا للاتفاقية المبرمة بينهم تصل إلى 400 بليون دولار من الاستثمارات الصينية.
اتصالا بكل ذلك يرى محللون مرموقين مثل ريتشارد هاس رئيس مجلس الشئون الخارجية بنيويورك أن النظام الدولى المعاصر بأكمله لم يعد فعالا بالقدر الكافى، ويقترح تشكيل تجمع محدود للغاية من بعض الدول المؤثرة للتشاور وتوجيه النظام الدولى فى كيفية التعامل مع الأحداث والتحديات، ومن الملفت أن المجموعة المقترحة لم تشمل أى دولة من أمريكا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربى.
بدأت المقال بسؤال، ولعله من المناسب أن أمهد للفقرة الختامية بسؤال، ألا وهو أين العرب من كل ذلك؟
تعتمد الكثير من الدول العربية على أطراف أجنبية، بعضها غربية وأخرى روسيا بعد السوفيتى تاريخيا، وعلينا المحافظة على العلاقات الاستراتيجية الحالية لصيانة مصالحنا على المدى القصير، واننا مع تقييم وتقويم سياساتنا، فى ضوء المتغيرات فى ميزان القوة وتحرك نقطة الارتكاز الدولية شرقا، إذا كنا بالفعل راغبين فى الاحتفاظ بدور فى المستقبل المنظور.
وزير خارجية مصر السابق
شكل النظام الدولى عقب الحرب العالمية الثانية وكانت للدول المنتصرة الدور الرئيسى فى بلورته، لذا تمحور حول اولوياتهم ومنافستهم، وأصبحت الساحة الأوروبية هى نقطة الارتكاز الأولى، باعتبارها ساحة المواجهة المباشرة بين حلفاء الماضى الذين افترقوا أيديولوجيا بين قطبين احدهما شرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى، والآخر غربى بريادة أمريكية للحلف الأطلنطى، ومنها امتدت المنافسة عبر القارات العالم وبحاره.
تطور وتفاعل النظام الدولى مع حصول العديد من الدول النامية على استقلالها، ومع تفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار حلف وارسو، فزاد الحديث عن عالم القطب الواحد الأمريكى، وعن الفرص والتحديات والساحات الجديدة فى إطار عصر العولمة، بما فى ذلك عن منطقة متلاصقة وممتدة من آسيا وأوروبا تسمى يوراسيا، وهى ساحة كانت تعتبرها الصين تاريخيا مرتع طبيعيا لها.